حلّ مشكلة "الفوضى" بـ"الفوضى"!!
لنفترض أنّه ـ بقدرة قادرـ تمّ إصلاح جميع الإشارات المرورية الضوئية "السيمافروات" في مدينة بنغازي، وتم إزالة جميع المطبات والمخارج "الغير قانونية" على الطريق السريع .. وتم تركيب علامات مرورية في جميع التقاطعات، وتم تطبيق مواد قانون المرورعلى الجميع بدون تمييز أو محسوبية، كذلك تم اصلاح جميع الطرق ومداخلها ومخارجها ـ دون تغيير شامل ومُكلّف للبنية التحتية ـ.
هل يؤدي ذلك إلى حل مشكلة المرور في المدينة والقضاء على الفوضى العارمة على الطرق وفي تقاطعات الطرق، وهل يؤدي ذلك إلى أن يقضي الناس وقتا أقل مما يقضونه الآن في سياراتهم على الطرق وما يتبع ذلك من آثار نفسية ـ ضغط دم وقلق وغضب مثلا ـ، واجتماعية ـ قضاء وقت أقل في البيت مع العائلة وفي المنتزهات مثلا ـ، واقتصادية ـ مصاريف صيانة السيارة والبنزين وعلاج الامراض الناتجة عن مشاكل المرور مثلا ـ ؟!
من أجل الاجابة على هذه الأسئلة، اقترحت على مجموعة من الطلبة والطالبات تحويل الافتراض أعلاه إلى تطبيق عملي يغطي جزءا صغيرا من المدينة، اعتقدنا أنه يمثل المدينة كلها أو يقترب من تمثيلها، لنرى ما يحدث.
النتيجة الأولى أن المشروع ـ أصبح يدور في حلقات تكبر وتصغر وتنقسم إلى حلقات زوجية أكبر، نسميها خطأً بـ "الحلقات المفرغة"، وهي في الواقع ما يُسمى في علم "الفوضى" ـ أو "الاضطراب" إذا شئت ـ بالجواذب. فكلما اعتقدت المجموعة أن حركة المرور تسير بسرعة منتظمة وكل شيء على ما يرام، تنشأ جواذب غريبة تؤدي إلى فوضى عارمة واضطراب كبير في عملية السير، بل ويقع عدد كبير من الحوادث لا يحدث عادة مهما زاد الازدحام في الطرقات والتقاطعات في واقعنا اليومي.
كيف حدث ذلك؟
لقد كان من شروط العمل أن تكون مجموعة الطلبة والطالبات جزءا من العمل فعلا، أي أن يكون الطلبة والطالبات سائقين في تجارب المشروع ويفكرون بالطريقة التي نفكر بها نحن سائقي السيارات بنفس الاخلاق ونفس المشاعر ونفس الحوافز ـ وليس كسائقين مثاليين مائة في المائة ـ. وقد أدى ذلك إلى فشل بعض التجارب، ونجاح المشروع في تحقيق الهدف منه ـ هل الفوضى التى نراها ضرورية لتجنب فوضى أكبرـ !!.
كيف كان ذلك؟
طبقا لـ"نظرية الفوضى"، قد يتحول نظام بسيط منظم وثابت ومتوازن إلى فوضى إذا حدث تغيير بسيط في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، ويحصل تفرع لدوائر الجذب إلى دوائر فرعية زوجية تتكاثر بطريقة ينتفي معها االثبات أو الإتزان ـ حتى في وجود نوع من التوازن المطلوب والمستحب في عوالم "غير علم الفوضى" ـ وهذا يشبه الكلام عن أنّ "المساواة في الخطأ" تؤدي إلى "الصحيح"، ويشبه الكلام عن أن "المساواة في الظلم" تؤدي إلى "العدل"!!
إن احدى نتائج التجارب كانت ثبات واستقرر وتكرار للفوضى العجيبة. والثبات والاستقرار هنا "شيء ايجابي" في غير نظرية "الفوضى"، ولكن ذلك هنا شيئ سلبي على الأقل على المدى القصير العملي، فقد أدت إحدى التجارب إلى دوران السيارات حول احدى جزر الدوران دون توقف، وحدث توقف تام للمرور القادم إلى جزيرة الدوران من جميع الاتجاهات، وهذا أدى لحدوث حوادث كثيرة في جزر الدوران المجاورة.
هل كانت النتيجة ستختلف لو كان السائقون مثاليين، مؤدبين، يحترمون اشارات المرور، ويعطون حق الطريق لغيرهم، ولا يتهورون في قيادة السيارات؟
بمعنى آخر، هل حسن أخلاق السائقين ومشاعرهم الإيجابية الفياضة ونواياهم الحسنة يحل مشكلة فوضى المرور والاضطراب المستمر في الازدياد، دون الحاجة إلى تغيير في البنية التحتية للطرق والتقاطعات واشارات المرور المختلفة ودون تغيير في الطريقة التي يطبق بها قانون المرور والقوانين الداعمة له؟
أعاد الطلبة والطالبات التجارب بتغيير معامل واحد وهو حسن أخلاق "أغلب" السائقين وكون أغلبهم مؤدبين مثاليين غير متهورين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ويعطونهم حق الطريق. والنتيجة كانت مؤسفة، لأنّ مجموعة قليلة جداً من السائقين العاديين ـ الغير مثاليين وفي نفس الوقت غير المتهورين وحسني النية ـ الذين يتصرفون حسب حاجتهم وظروفهم وتوقيت دخولهم للطرق، مجموعة صغيرة جدا انتجت فوضى عارمة طبقا للبيانات المعروضة ودوائر الجذب تصاعدت إلى ما لانهاية دون أن تتجه إلى نقطة استقرار، بل عجز الحاسوب عن الاستمرار في عرض أي بيانات وأشكال توضيحية عن ما يحدث.
الخلاصة ـ والتي أدى إليها فشل كثير من التجارب ونجاح المشروع ـ هي وصول الطلبة والطالبات إلى نتيجة هي أنه طبقا لنظرية الفوضى الحديثة والنتائج أعلاه، أن الناس ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ يحلون "بالفوضى" مشكلة المرور ـ خاصة في مداخل ومخارج الطرق، وحول جزر الدوران، وفي تقاطعات الشوارع الرئيسية. أي أن الناس يحلون مشكلة الفوضى بالفوضى. وقد تعوّد الناس على ذلك، وأصبحوا يمارسون ذلك في معظم الأحيان دون وعي، ودون ملل أيضا من تكرار التغيير الذي رغم كونه ضعيفا جدا إلا أنّه كثيرا ما يؤدي إلى فوضى عارمة، يعقبها انسياب في حركة المرور ووصول كل سائق إلى هدفه دون تأخير يذكر في وقت الوصول ـ طبعاَ حسب تقدير السائقين لقيمة الوقت، وهذه احدى "ميزات" كوننا لا نهتم كثيرا بالدقة في التعامل مع عامل الوقت ـ فمواعيد وصولنا غالباً ليست "الساعة السابعة" أو "الساعة التاسعة والنصف" أو "الساعة الرابعة وخمس وأربعون دقيقة" مثلاً، بل معظم مواعيد وصولنا هي "في الصبح" أو "في العشية" أو "بعد العصر". و"بعد العصر" لا تعني بعد آذان العصر بالضبط ـ كما قد يتبادر لذهن البعض ـ، ولكنها قد تعني أي وقت ما بين العصر والمغرب، ولولا ذلك لكثرت الحوادث وانعدمت الحركة وعمّت الفوضى ... وانحلت مشكلة الفوضى بـالفوضى ـ مرّة أخرى ـ !!
...