الديمقراطية التوافقية... لمن ولماذا؟ (2/2)
في الحلقة الأولى تحدثنا عن "الديمقراطية التوافقية" عموما: تعريفاتها، عوامل قيامها، عوامل استمرارها وتطورها، خصائصها، سلبياتها وايجابياتها، وأماكن تطبيقها.
نواصل في هذه الحلقة الحديث عن الديمقراطية التوافقية من خلال النظر إلى تطبيقاتها في لبنان، كما وردت في دراسة كتبها "د. رغيد الصلح" عن "الديمقراطية التوافقية" بتكليف من مشروع برنامج الأمم المتحدة في مجلس النواب اللبناني، وصدرت في يناير 2007م.
في الجزء الثاني من دراسته، يتحدث "د. رغيد الصلح"عن "الديمقراطية التوافقية في لبنان"، من خلال نظرة إلى التطور التاريخي للنظام السياسي اللبناني أولا، ثم سرد للعوامل المساعدة لقيام النظام التوافقي في لبنان، وخصائص الديمقراطية التوافقية في لبنان. وينهي الكاتب دراسته بنقد التجربة اللبنانية في الجزء الثالث، تحت عنوان: "تقييم وبدائل في نقد الديمقراطية التوافقية".
يقول الكاتب أن جذور الديمقراطية التوافقية في لبنان قد تكون بدأت عندما عمدت السلطات العثمانية بالتفاهم مع الفاعلين الدوليين والمحليين إلى تطبيق بعض الاصلاحات السياسية والادارية من بينها قيام مجالس تمثيلية مكونة من ممثلي الطوائف الرئيسية في لبنان بما يتناسب مع عدد ابناء الطوائف بين مجموع السكان، واعتبرت هذه النسب اساسا لتوزيع المناصب والوظائف في الادارة. كما أن اختيار اعضاء مجلس النواب اللبناني فيما بعد تم هو أيضا على اساس طائفي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ـ يقول الكاتب ـ وضع المنتصرون في الحرب لبنان تحت الانتداب الفرنسي، وتبع ذلك اعلان الجمهورية اللبنانية، وتم تشكيل المجلس التمثيلي الذي تحول إلى مجلس نيابي مع صدور الدستور اللبناني عام 1926م، والذي تضمن في مواده "تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة"، وتوحدت الطوائف في إئتلاف كبير اعتبر نواة لازمة لتطبيق الديمقراطية التوافقية. الا أن هذا الائتلاف الكبير الذي كان له دور في استقلال لبنان سرعان ما بدأ يتفكك بسبب طبيعته الشخصانية، فالزعماء ـ قوميون عرب وقوميون لبنانيون ـ رغم وجود تأييد شعبي لهم، إلا انهم لم يكونوا يقودون احزابا منظمة وفاعلة.
تفكك الائتلاف الكبير كان ـ حسب رأي الكاتب ـ بسبب التناقض الذي كان يطبع موقف النخبة من الديمقراطية التوافقية، فهي من جهة تتبنى مقومات التوافقية ولكنها كانت من جهة أخرى تعارض "الطابع الطائفي" لذلك النظام، فالبيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال اعتبر ان الطائفية " تـُسمّم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني"، ووعد البيان اللبنانيين بإلغاء الطائفية دون أن يوضح الطريق الى تحقيق ذلك الهدف.
من الأمور التي اختلف عليها اللبنانيون هي "علاقة لبنان بالعرب والقضايا العربية" التي يقول عنها الكاتب أنها في الاربعينات تم تسويتها بقبول الجميع بخصوصية لبنان التي تعفي اللبنانيين من تحمل مسئوليات اقليمية ودولية موازية لتلك التي تتحملها الدول العربية الاخرى. هذه الأمور تغيرت مع قيام الجمهورية الثالثة ـ 1958م ـ والتي جاءت وسط أجواء ومشاعر عربية مختلفة ـ السويس 1956م، مشروع ايزنهاور، انقلابات سوريا والعراق ـ حيث ألقت هذه التطورات بثقلها على نظام الديمقراطية التوافقية في لبنان الذي بات يواجه تحديات خارجية ساهمت في بلورة استقطاب حاد داخل النخبة السياسية اللبنانية التي انقسمت الى فريقين: فريق (القوميون اللبنانيون) يماشي السياسات الغربية ويعتمد عليها، وفريق (القوميون العرب) يماشي الراديكالية العربية ويستند الى دعمها، وتظافرت العوامل الخارجية مع الداخلية على دفع الفريقين الى الاحتكام الى قوة السلاح عام 1958م من اجل حسم الصراع بينهما، وانتهى الصراع بنتيجة "لا غالب ولا مغلوب".
وكان الأمل أن تستمر الديمقراطية التوافقية في حل المشكلة السياسية إلا أن زيادة قوة التاثير العروبي بفعل تداعيات الحرب العربية الاسرائيلية عام 1967م وتمركز المقاومة الفلسطينية في لبنان، الامر الذي سعّر الصراع الداخلي بين فريقي السياسة اللبنانية التاريخيين، وفرض على لبنان دورا جديدا ـ اعتباره دولة مواجهة مع اسرائيل ـ بدل الدور السابق له وهو "لبنان عربي ولكنه دولة مساندة وليس دولة مواجهة" مع اسرائيل، ومهد ازدياد تاثير الراديكالية العربية الفلسطينية فالسورية في السياسة الداخلية اللبنانية لظهور بذور الفرقة والتباعد بين اللبنانيين المناصرين لهذا الطرف او ذلك الطرف وتضاءل دور الديمقراطية التوافقية لتبرز محله دعوات صريحة للقضاء على النظام التوافقي برمته، بل حلت الحرب الأهلية محل التوافق الوطني.
وسواء كانت الحرب حربا بين اللبنانيين ـ يقول الكاتب ـ أم حربا على اللبنانيين أم حرب الآخرين على أرض لبنان فانها لم تنته الا بتجديد "ميثاق 1943م" أو بالأحرى الديمقراطية التوافقية وكتابة "وثيقة الوفاق الوطني" ـ اتفاقية الطائف، التي صادق عليها مجلس النواب اللبناني في مايو 1989م ـ. وتتفق الوثيقة والميثاق في أربعة نقاط وهي:
1. بلورة مباديء تنظم على اساسها الديمقراطية التوافقية اللبنانية.
2. الاعتقاد بأن الديمقراطية التوافقية هي نظام مؤقت.
3. الاعراب عن رغبة الزعماء في استبدال النظام السياسي اللبناني بنظام جديد.
4. الغموض في تحديد هوية النظام السياسي المرتجى.
ويقول الكاتب أن خروج القوات السورية من لبنان ـ 2005م ـ كان نقطة تحول مهمة، وله تاثير كبير في مستقبل الديمقراطية التوافقية في لبنان، وان كان الكاتب يرجح استمرار الديمقراطية التوافقية نظرا لتوفر عوامل مساعدة على استمراها، وهي:
1. حجم الدولة: حجم لبنان صغير مقارنة بدول أكبر نجحت فيها الديمقراطية التوافقية ـ بلجيكا وماليزيا مثلا ـ.
2. التحدي الخارجي : التحدي الخارجي موجود بقوة، رغم ان اللبنانيين لا يتفقون على جهة وقوة هذا التحدي وكيفية التعامل معه.
3. ميزان القوى: ميزان القوى موجود ولكنه مركب ومعقد، هل هو بين المسيحيين والمسلمين، أم بين اليسار واليمين، ام بين اللبنانيين والفلسطينيين أو السورييين أم بين القوميين اللبنانيين والقوميين العرب أم "بين القاتلين والمقتولين"!. ورغم أن آخر احصائية لحجم الفئات الطائفية والاثنية والحزبية في لبنان ترجع الى عام 1932م، الا ان الفئات الطائفية هي الاكثر حضورا من بين الفئات اللبنانية الـ 18 المعترف بها، وفيما كان ميثاق 1943م هو بين المسيحيين والمسلمين فان وثيقة الوفاق الوطني هي بين الموارنة والسنة والشيعة.
4. التباينات الواضحة : يتصف المجتمع اللبناني بالتعددية، وتوجد فواصل كثيرة بين الفئات اللبنانية، يراها البعض عوامل مساعدة لتوطيد الديمقراطية التوافقية في المجتمع التعددي، كما يوجد تطابق في المهن، وهكذا نجد عامل ينتمي لطائفة معينة قد ينخرط في تجمعات ليس بالضرورة مكونة من أفراد طائفته.
ويلخص الكاتب خصائص الديمقراطية التوافقية في لبنان فيما يلي:
أولا/ الائتلاف الكبير: تتوزع الرئاسات الثلاث ـ رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب ـ على الطوائف اللبنانية الرئيسية، ويتعاون الثلاثة وفق أحكام الدستور, وهذا يختلف عن الائتلافات المتعارف عليها بين المؤسسات الحزبية ـ كما في سويسرا والنمسا وهولندا وبلجيكا وماليزيا ـ، وهذا جانب سلبي في النظام التوافقي اللبناني، حاولت وثيقة الوفاق الوطني تفاديه.
ثانيا/ الاستقلال الفئوي: تتمتع الفئات الدينية اللبنانية بمقدار واسع من الاستقلالية وحرية التصرف في شئونها الخاصة ـ الاحوال الشخصية والتربية والتعليم والتنظيم السياسي والمجتمعي ـ التي اباحها لها الدستور والقوانين، مما جعل البعض يرون أن لبنان "فدرالية طوائف".
ثالثا/ النسبية: اعتمدت قاعدة التراتبية العددية في اسناد المناصب الرئيسية في الدولة، إذ وزعت الرئاسات الثلاث على الطوائف المارونية والشيعية والسنية، كما أعطيت طائفة الروم الارثودكس منصبي نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء. كما طبقت قاعدة النسبية في توزيع الوزارات، فمجلس الوزراء اللبناني أشبه بمجلس نواب مصغر تتوزع فيه الوزرات على الطوائف. كذلك طبقت القاعدة النسبية في توزيع المقاعد النيابية بنسبة 6 للمسيحيين و5 للمسلمين ـ عدلت عام 1990م الى قاعدة التساوي بين المسيحين والمسلمين ـ. وشمل تطبيق النسبية ايضا سائر الادارات وتوزيع الوظائف على مختلف المستويات، كما تشمل النسبية السياسة المالية والمشاريع الانمائية والخدماتية التي تتبعها الدولة.
رابعا/ الفيتو المتبادل: طبقت قاعدة الفيتو المتبادل حتى عام 1989م على نحو يشابه ما هو مطبق في سويسرا وهولندا ـ أي عن طريق تفاهم ضمني بين القيادات حول مبدأ الفيتو وحول حق الفئات اللبنانية الرئيسية في اللجوء اليه. الا انه جرى استبدال هذه القاعدة في مؤتمر الطائف، حيث تم التمييز بين المواضيع "الاساسية" التي تتخذ فيها القرارات في اجتماعات مجلس الوزراء باكثرية الثلثين، وبين المواضيع "العادية" التي تتخذ فيها القرارات بأكثرية الحضور. ويسمح هذا التمييز للفريق الوزاري الذي يمثل ثلث أعضاء المجلس والذي لا يوافق على مشاريع القرارات في القضايا الاساسية أن يطبق الفيتو فيمنع صدور القرار حتى اذا وافقت عليه الأكثرية ـ وهو ما يسمى بالثلث المعطّل ـ، مع ملاحظة أن الوزراء المكونين للثلث المعطل ليس بالضرورة يتبعون نفس الطائفة.
وينهي الكاتب دراسته بالقول أن الديمقراطية التوافقية تواجه انتقادات منها:
1. العلاقة بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية، وعما اذا كانت الديمقراطية التوافقية هي بالفعل ديمقراطية. فالبعض يعتقد أن تفويض النخب لقيادة البلاد كما هو في النظام التوافقي هو خطأ قيمي يتنافى مع مباديء رئيسية من مباديء الديمقراطية ـ المساواة والشفافية وتغليب الصالح العام على المصالح الفئوية ـ، ففي لبنان مثلا يعترف بـ 18 طائفة، ولكن ثلاث طوائف فقط تقتسم الرئاسات الثلاث ـ الدولة والحكومة والنواب ـ.
2. بعض الناقدين الليبراليين يبدون تخوفهم من أن تطغى استقلالية الطوائف على استقلالية الافراد داخل هذه الطوائف، حيث تحرم طائفة ما أفرادها من حريات معينة ـ حرمان المرأة مثلا من حق التصويت أو التعليم أو العمل أو السفر ـ، ولا يحق للدولة في نفس الوقت التدخل وحماية هؤلاء الافراد ـ المواطنين ـ نظرا لاستقلالية الطائفة.
3. ينتقد البعض الديمقراطية التوافقية لأنها تكافيء النزعات الفئوية، وتثقل كاهل الدول بالمطالب الفئوية الكثيرة الضيقة التي يمكن تحقيق معظمها بتكاليف أقل لو أنها انجزت لصالح جميع المواطنين.
وختاما، نعود لسؤالنا في بداية الحلقة الأولى: هل "الديمقراطية التوافقية" ديمقراطية؟!
يرى الكثيرون أن الديمقراطية التوافقية ديمقراطية رغم ما فيها من سلبيات، فقد نجحت في دول معينة ـ سويسرا وهولندا وبلجيكا وماليزيا مثلا ـ حيث يعيش الناس في أمن وسلام ويؤدون واجباتهم ويتمتعون بحقوقهم. آخرون يرون أنها ليست ديمقراطية فقد تعثرت في لبنان، لاختلاف تركيبة الطائفية في لبنان عنها في الدول الاوربية المذكورة، وكذلك فان الديمقراطية التوافقية تغلب المصالح الفئوية على مصالح الأغلبية، وهذا ضدها. ولكن، كما أن الديمقراطية "الكلاسيكية ـ المتعارف عليها" لا تدعي انها تحل كافة المشاكل وتحقق كافة الطموحات الانسانية ـ يقول كاتب الدراسة ـ فان الديمقراطية "التوافقية" هي ايضا لا تدعي ذلك. ان المجال مفتوح لتطوير الديمقراطية "التوافقية" والانتقال بها الى مرحلة الديمقراطية "الكلاسيكية"، ولكن علماء الاجتماع يحذرون من ان هذا الانتقال اذا لم يتم بحذر وبالتدريج سينتقل بالدولة الى الدكتاتورية، دكتاتورية طائفة أو دكتاتورية فرد، وربما الى الفوضى. وأضيف هنا أنه يمكن القول بان الديمقراطية "التوافقية" هي ديمقراطية من لا يستطيعون تطبيق الديمقراطية "الكلاسيكية ـ المتعارف عليها"، بسبب التعددية الحادة وانعدام الثقة بين فئات المجتمع، أو، بسبب خوف الجميع من أن تعمّ الفوضى إذا هم طبقوا الديمقراطية المتعارف عليها!!
لا تعليقات على هذا الموضوع