إزدواج في الشخصية... ليس إلا!!
إذا كنا نحن جميعا لا نخالف قواعد المرور... ولا نلقي بالقمامة على الرصيف وفي وسط الطريق... ولا نبني أكشاك السجاير بل والدكاكين عشوائيا أمام بيوت الآخرين... إذا كنا "نحن جميعاً" ـ وكما نحدّث بعضنا في المرابيع والمقاهي والمكاتب ـ أبرياء من كل ذلك... فمن يقوم بكل ذلك إذن؟!
والإجابة هي أننا نحن نقوم بكل ذلك... بعضنا يخالف قواعد المرور... وبعضنا يلقي بالقمامة على الرصيف وفي وسط الطريق... وبعضنا يبني أكشاك السجاير بل والدكاكين عشوائيا أمام بيوت الآخرين.
كيف إذن ـ عندما يحدّث بعضنا البعض ـ نقول أنّ غيرنا فعل ذلك... وندّعي أننا أبرياء من تلك الأعمال المشينة؟!
والإجابة هي أنّنا ذوو شخصية مزدوجة "إثنان في واحد":
الشخصية الأولى "عندما نكون وحدنا لا يراقبنا أحد" هي التي تخالف قواعد المرور... وتلقي بالقمامة على الرصيف وفي وسط الطريق... وتبني أكشاك السجاير بل والدكاكين عشوائيا أمام بيوت الآخرين.
والشخصية الثانية "عندما نكون مع الآخرين قي مربوعة أو في مقهى أو في مكتب" ندّعي بأننا ناس محترمين لا يخالفون اشارات المرور، وناس محترمين لا يلقون بالقمامة في وسط الطريق، وناس محترمين لا يبنون العشوائيات أمام بيوت الناس وفي وسط الطريق.
الآن، كيف يحدث عندنا ـ نحن مزدوجي الشخصية ـ التوافق بين الشخصيتين؟! وكيف لا نجد غضاضة في قول كلام وفعل عكسه تماماً... في كل يوم وفي كل ساعة، بل وفي كل دقيقة؟!
والإجابة هي أننا نتيجة لكثر كلامنا عن فعل ما، نعتقد أنّنا فعلناه، وهذه هي شخصيتنا الثانية أي نحن عندما يكون معنا الآخرون.
نحكي مثلا في المرابيع عن النظافة فنعتقد أننا فعلا ضد القاء القمامة في وسط الطريق... وبعد أن نخرج من المربوعة نلقي بعلبة مشروب أو عقب سجاير أمام البيت ـ بدون أي حرج ـ وكأننا نسينا ما قلناه عن النظافة في المربوعة قبل دقائق.
نحكي أيضاً في المرابيع عن مشكلة المرور والزحام والفوضى ومخالفة الناس لقواعد المرور، فنعتقد أننا فعلا ناس منظمين نحترم فواعد المرور، ولسنا أبداً من أولئك الناس الذين لا يحترمون قواعد المرور والذين يتسببون في الزحام والفوضى عند التقاطعات في الشوارع وفي الطرق العامة... وبعد أن نخرج من المربوعة نقوم ـ بدون حرج ـ بمخالفة أول اشارة مرور نجدها أمامنا، وكأننا نسينا ما قلناه قبل دقائق في المربوعة عن النظام واحترام قواعد المورر.
في الواقع أننا لم ننسى أبدا كلامنا في المرابيع ـ عندما نقوم بما يخالف هذا الكلام جملة وتفصيلا ـ بل ثمة أمر آخر قد يعطينا شرحا ـ ربما غير كافي ـ عن ازدواج شخصيتنا وعن التناقض الواضح بين ما نقوله وما نفعله.
لنقرأ هذه الحكاية ـ التي وردت في كتاب "الذاكرة" لجوناثان فوستر ـ بتصرف:
(طفل عمره عشر سنوات يحكي دائما أن ابن الجيران أنقذه من عملية اختطاف تعرض لها وأصيب على أثرها برضوض في وجهه ـ عندما كان عمره سنة واحدة، وقد تحصل ابن الجيران على مكافأة من أبوي الطفل الذي أنقذه، كما اشتهر بالشهامة بين الجيران. ويقول الطفل أنه يتذكر بطولة إبن جيرانهم الشهم ويتذكر ما حدث قبل سنوات، وكأنه يحدث الآن.
المعضلة أن إبن الجيران عندما كبر، تاب وندم على أشياء مشينة كثيرة فعلها في سابق حياته، ومن بينها قصة الخطف ـ وقام بارجاع المكافأة المالية إلى أبوي الطفل قائلا أن قصة الخطف والانقاذ فبركها هو من أجل الشهرة والمكافأة، بل وأن الرضوض في وجه الطفل المسكين هو من تسبب فيها ليصدق الناس القصة.)
كيف إذن يؤكد الطفل الصغير أنّ قصة الخطف حدثت فعلا؟!
هذا ما يحدث لنا: كثر الكلام عن فعل شيئا ما، وتكرار رواية نفس القصة مع تعديلات بسيطة لجذب الانتباه، يجعلنا نشعر مع مرور الوقت والتكرار الكثير، كأننا فعلنا ذلك الشيء.
الأمر الآخر هو أننا ـ كمجموع ـ نعرف أن الكلام في المرابيع هو كلام فقط ـ ولا يحتاج منا إلى أي عمل أو إلتزام ـ، ونتفنن في اطالة الكلام وتفاصيله الدقيقة التي لا لزوم لها في واقع الأمر، ونكرر القصة مئات المرات مع تعديلات طفيفة ، والغريب أنّه لا أحد يوقفنا عند حدّنا ويقول لنا: "أننا سمعنا هذه القصة ولا يجب أن نضيع وقتنا في السماع الى نفس القصة مئات المرات"... لماذا؟
لأننا ـ نحن جميعا ـ نفعل الشيء نفسه، نحن أيضا نكرر نفس القصة مع تعديلات طفيفة، وفي أحيان كثيرة، يقوم أحدنا بملاحظة التغييرات الطفيفة، ويصحح المتحدث ويقوم برواية نفس القصة مرّة أخرى، ولا يستوقفه أحد... وهكذا مع تكرار رواية القصة مئات المرات، نصدقها، ونعتقد أنها حدثت فعلا، رغم أنها حكاية ليس إلا، وكلام فقط.
وهكذا، تجدنا جميعا في المرابيع والمقاهي والمكاتب ـ كمتكلمين ـ ناس طيبين اكويسين نحترم اشارات المرور ونحترم قواعد النظافة ولا نقوم بأي أعمال غير قانونية. بينما تجدنا في واقع حياتنا اليومي لا نحترم اشارات المرور ولا نحترم قواعد النظافة ولا نتردد أبداً في القيام بأي عمل غير قانوني إذا ما احتجنا لذلك.
والخلاصة هي أننا جميعاً ناس طيبين محترمين اكويسين، إبتلاهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بازدواج في الشخصية... ليس إلا!!