ابراهيم اغنيوه: الكلام أو الموت!! 17/4/2015 16:49 ابراهيم اغنيوه: الكلام أو الموت!!
ابراهيم اغنيوه بحث

الكلام أو الموت!!


ما الذي يُكـوّن وحدة مجتمع ما؟ وكيف يحدث انه بالرغم من هذه الوحدة فإننا نعيش فرادى؟ ما الذي نستطيع أن نعطيه للآخر؟ وماذا نتوقع من الآخر أن يعطينا؟

أسئلة يحاول الاجابة عليها كتاب "الكلام أو الموت" (تأليف: مصطفى صفوان، وترجمه عن الانجليزية: مصطفى حجازي، المنظمة العربية للترجمة، مايو 2008م).

يقول الكاتب في مقدمة الكتاب أنه سأل أستاذه "جاك لاكان" : هذا الشاب ـ أعني المريض الذي كنت مهتما به حين ذاك ـ يأتي لرؤيتي مرتين أو ثلاثا أسبوعيا، وبروي لي كمية من القصص، ويدفع لي ثم يغادر. ماذا يتعين علي أن أعطيه بالمقابل؟ وكان الجواب على ذلك: لماذا؟ إنك تعطيه صمتك! وفي حوار آخر بين الكاتب وأستاذه، يقول الأستاذ: آه لا يوجد بين شخصين الا الكلام أو الموت!

في الفصل الأول من الكتاب ـ عن المعنى والحقيقة في التحليل النفسي ـ يتحدث الكاتب عن التأويل، ويقول انه ما ظهر الكبت، كما يردد فرويد، الا وافتضح أمره في أثر يدل عليه ـ وتاويل المعاني واحد من الاثار المهمة ـ. ونلاحظ هنا تركيز الكاتب على تأويل اللغة ـ المعاني ـ أكثر من التركيز على اللغة نفسها.

ويؤكد على ان نظريته في التحليل ترتكز على مسلمتين تُخضع أولاهما وهي علنية ـ المعنى للقصد الذاتي ـ بينما ان الاخرى والتي لفرط بداهتها الظاهرية تصرفنا عن التفكير فيها، فتُتبع الدال بالمدلول ـ على النقيض من مسلمات فرويد ـ. ويصل بنا الى القول بانه يعتمد في تحليله على كل من مفهوم "الجملة تعني "ومفهوم "الاصطلاح"، ويميز ـ مثل بول جرايس ـ بين المعنى الطبيعي الذي يدل على العلاقات السببية ـ من مثل البثور تعني الاصابة بالحصبة ـ والمعنى غير الطبيعي الذي يدل على وقائع وحالات من خلال اشارات غير لغوية ـ من مثل ممنوع الوقوف أو ممنوع المرورـ.

ومثل بول جرايس، يلاحظ الكاتب وجود حالات لغوية يجد المتكلم فيها صعوبة في قول ما يريد قوله، كما يلاحظ أن فكرة التعاون في التواصل تؤدي دورا محوريا بمقدار ما تثير التضمين الحواري الذي يتميز عن التضمين المنطقي. فمثلا لو لاحظ احدهم انه لم يتبق الا القليل من الوقود في خزان سيارته، وقيل له ـ جوابا على سؤاله ـ ان هناك محطة للوقود بالقرب من البقال الموجود في الشارع المجاور، فان هذا الجواب يتضمن ـ على صعيد الحوار ـ ان محطة الوقود مفتوحة وتعمل، والا فلن يكون له من معنى أكثر من التاكيد بان هناك بقالا في الشارع المجاور. أما فيما يخص مفهوم الاصطلاح فيعرفه ديفيد لويس على انه علامة يتعرف من خلالها أحد المتحاورين على مقاصد الآخر.

ويشير الكاتب الى ان التمييز الذي اجراه أوستن بين ما يسميه الاستعمالات "السوية" أو "الجادة" لجملة ما واستعمالاتها "السقيمة" او "الطفيلية" هي مجرد دعوة للحدس، ذلك ان واقعة اصدار أمر بصيغة الأمر ـ مثلا ـ لا يشكل مؤشرا على جديته، كما انه بالامكان طرح سؤال جاد بصيغة الأمر، لذلك كثيرا ما يحتاج المتحدث الى القول بانه "يعني" كذا، و"لا يعني" كذا، لان الصيغ النحوية لا تؤدي بالضرورة الى تقريب المعنى لذهن المتلقي، فجملة ("ما تبقى" من صالح مرزوق) ـ وهي بالمناسبة عنوان رواية كتبتها قبل سنوات ـ قد تعني "الذي تبقى" وقد تعني "لم يتبقى" وقد تعني "ما الذي تبقى" ـ طبعا نحن لا نستطيع استعمال علامات الاستفهام والتعجب وغيرها عندما نتكلم ـ. ويتفق الكاتب مع جاكوبسون في احتجاجه على المحاولات الانقيادية والمصطنعة الهادفة الى اختزال اللغة الى مجرد التوكيدات الاثباتية ـ التوكيد هو معيار القول ـ، والى اعتبار صيغ الطلب ـ الاستفهامية والآمرة ـ نوعا من تحريفات الجمل الاثباتية أو شروح لها.

وفي الفصل الثاني من الكتاب ـ الحقيقة بوصفها معيارا واعتقادا ـ يتحدث الكاتب عن كيلسون ونظرته إلى الفرق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وعلاقة ذلك بالعقل والاخلاق ـ في نظر كيلسون وما أخذه عن هيوم ـ ... حيث الاخلاق تمارس تأثيرها على الافعال والعواطف، يصبح من البداهي انه لا يمكن استنتاجها من العقل، وانه ـ كما يلاحظ كيلسون ـ "ليس السلوك الحاضر وانما السلوك الملزم هو الذي يستهدفه المعيار الذي يملي سلوكا معينا"، فالثنائية اللغوية ـ ما يكون وما يجب ان يكون ـ تتطابق مع ثنائية الواقع والقيمة ما لا يمكننا من ان نستخلص قيمة ما من الواقع، ولا ان نستخلص واقعا ما من قيمة. ويستدعي ذلك القول بانه لو كانت اللغة تعبيرا عن الفكر لاصبح لكل امريء لغته الخاصة، اما اذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية فمن سيقررعندها المعنى المتوافق عليه بين اعضاء المجموعة؟ وكيف ظهرت الاخلاق الى الوجود ـ لا وجود لأمر من دون آمر ـ. ويشير كيلسون انه من غير الملائم التساؤل حول كيف وجد النظام الاخلاقي سواء اكان من خلال العادة ـ القانون العرفي ـ او كان بفضل الانبياء، كما انه يحق لاصحاب نظرية الضمير أن يفسروا صوت الضمير بانه ناتج عن الايمان.

ويعلن الكاتب في الفصل الثالث ـ النظام الرمزي (اللغة ـ التأويل في التحليل النفسي) ـ انه "لا يوجد بين شخصين، سوى الكلام أو الموت، التحية أو الضرب بالحجر". واذا كان ـ في البدء كان الكلمة ـ فان الناس البدائيين ـ حسب فرويد ـ كانوا يعرفون مسبقا الوصية القائلة "لا تقتل" قبل نزول التشريعات بوقت طويل ـ قارن ذلك بحي بن يقظان ـ، ويعرفون كذلك ان كل اعتداء على هذه التعاليم يستجلب عقابا. ما الذي يدفع المجتمع اذن الى ادخال قاعدة ـ اخلاقية مثلا ـ في الحقل الذي تركته الطبيعة من دون تحديد؟ الجواب : وجود مشكلة تثار ويوجب حلها، مثل التقنين الذي تلجأ اليه مجتمعاتنا في اوقات الحروب او الازمات، اي يتدخل المجتمع كي يقيم المجتمع.

وفي الفصل الرابع والأخير ـ من التحالف الى التنافس ـ يتحدث الكاتب عن التنافس ـ الواقعي ـ بين افراد المجتمع من ناحية، والتحالف والحب ـ الاخلاقي ـ من ناحية أخرى، حيث تبرز الاطروحة القائلة أن الاخلاقي هو مثقال الواقع. ان علاقتنا مع الاخر ـ شبيهنا ـ تكون في اوضح صورها اذا ما راقبنا طفلة تراقب شبيهة لها. انها تتأملها وكأنها تنظر الى نفسها في المرآة وقد تضربها واذا ما سألناها لماذا ضربتها أجابت لأنها ضربتني! لم تكن تكذب، اذ انها عاشت الضربة التي سددتها وكانها ضربة قد تلقتها هي. وكما انه بالامكان استخدام اصوات اللغة والفاظها من دون الشك بوجود قواعد النحو، كذلك هو الحال حين تكون الذات قابلة للدلالة على ذاتها، بواسطة ضمير، في غياب التواصل اللغوي.

ويورد الكاتب هنا قصة تلك الفتاة التي كانت تمضي الساعات في حانوت قصاب بدون ان تتغلب على دهشتها من واقعة غريبة : انهم يقطعون لحم بقرة، ولكن اين هي البقرة؟ لماذا لا تصيح؟ سيكون من الخطأ أن نلصق بالفتاة تهمة الخلط بين الكلمة والشيء ـ كما يفعل اللسانيون والمناطقة ـ، لأن كلمة "بقرة" كان لها بالتأكيد بالنسبة الى هذه الفتاة، المعنى ذاته الذي يتوافق عليه الجميع، الا ان امتلاكها هذا المعنى، لم يكن يجنبها السؤال الذي يؤرقها : كيف يتسنى أن نتمكن من تقطيع لحم بقرة، بينما لا توجد بقرة؟

ان حال الطبيعة ـ يقول الكاتب ـ هي حال حرب، ونستنتج من ذلك ضرورة اللجوء الى الكلام كي نقيم الحكم الذي يفوض الجميع له السلطة، او اللجوء الى العقد الذي يؤمن لكل فرد حقوقه الطبيعية، او اللجوء كذلك الى التبادل الذي يكون روح الوجود الاجتماعي. ان الكلام لا يوحدنا من خلال القوانين التي يسنها فقط، بل يبقى في هذه الحال البديل الآخر الذي يقول ان الكلام يوحدنا بواسطة القوانين التي يخضع لها الكلام هو ذاته. انه اما التوافق على بعض المباديء او اخضاع حريتنا لطرف يُعطى سلطة ارساء القانون وفرضه بالقوة.

وفي الختام ـ يقول الكاتب ـ لا يمكنني أن أتكلم وأن أقتل في نفس الوقت، نظرا لما يفترضه الكلام من الصفات، كما لا يمكنني الكلام والافلات من مرجعية الحقيقة التي يجبرني الكلام عليها، حتى ولو كان كاذبا، فإما الكلام أو الموت!!

ابراهيم اغنيوه

 


إضغط هنا لمراجعة التعليمات الخاصة بتعليقات القراء 

إضغط هنا للتعليق على الموضوع
Reader's Comments
ليبي
عندما تسمع عن او تقرأ للدكتور إبراهيم غنيوة تعود بك الذاكرة فوراً الى ذكريات النضال وموقع ليبيا وطننا الموقع الليبي الرائد في بلاد المهجر عندما كانت الكتابة جريمة والمعارضة انتحار…...
التكملة
البشير
استاذنا الفاضل ابراهيم عنيوة تحية طيبة وبعد كنت الحضن الدافيء والمكان الآمن (ليبيا وطننا) لنلتقي ونتحاور على مدى سنين مضت يبدو انك توقفت لفترة ظنا انك تستطيع ان تترك الاعلام والمعلومة او لغرض…...
التكملة