عندما تفكر في أمر ما، كثيرا ما نجد أنفسنا محاصرين بحواجز وعوائق لا نتجاوزها، ليس لأننا لا نستطيع تجاوزها ولكن لأننا تعلمنا أن نتبع المألوف ولا نخرج عليه، وكأننا وُضعنا في صندوق مملوء بالمألوف والممكن والمستطاع والصحيح والعادي والطبيعي والسهل، الذي لا نفكر خارجه، لأن خارجه غير مألوف وغير ممكن وغير مستطاع وخطأ وغير طبيعي وصعب.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو: من أو ما الذي كبّلنا وحدّ من تفكيرنا وجعلنا نفكر داخل الصندوق فقط؟ وكيف ننطلق بفكرنا ونحطم الحواجز والعوائق، ولماذا يجب أن نسعى الى التفكير خارج الصندوق؟
هذه الأسئلة وغيرها يحاول الاجابة عنها كتاب "التفكير خارج الصندوق"، تأليف: مايك فانس و ديان ديكون ـ ترجمة ونشر: مكتبة جرير ـ 2002م.
وللاجابة عن السؤال الأخير، يقول الكاتب: إننا نسعى الى التفكير خارج الصندوق، لنعيش، لنكون، لنبدع، لنُجدد. ان الخروج من الصندوق هو هدف كل شكل من أشكال الحياة، فالشرنقة تتفتح عن الفراشة، ويخرج النبات من الأرض، وتتصدّع البيضة من النقر المستمرّ لأحد الأفراخ. كما ان هناك تدفق من الثقافة الغنية تأتينا كل لحظة بأفكار جديدة وابداع غير محدود.
ان التفكير خارج الصندوق ـ يقول الكاتب ـ يتطلب أن نكون أذكياء وحساسين بما يكفي للعمل على المتطلبات التي يولدها عصر المعلومات، ودائما ما يكون المستقبل تحديا، لأنه يأتي بالمتطلبات المتزايدة لفكرنا ومواردنا.
كيف دخلنا إلى الصندوق؟
فيما يلي بعض الأمثلة ـ التي يسردها الكتاب ـ على ما يجعلنا داخل الصندوق لا نفارقه:
1. نحن نخاف التوتر، ولا نفرّق بين التوتر الذي يولد الاكتئاب ـ السلبي ـ، والتوتر الذي لا يسببه. ان الذي يدمرنا ليس التوتر بل الاكتئاب. ويرى كثير من الخبراء أن الناس يسببون لانفسهم مستويات خطيرة من الاكتئاب عن طريق القلق المفرط بشأن التوتر الذي قد لا يؤذيهم أبداً. لا ابداع بدون توتر.
2. نحن نخاف من الافراط، ونادرا ما يكون هناك أي انجازعظيم دون افراط. ولا يشير الكتاب هنا الى الافراط في الاكل والشرب، ولكن مقاومة أن تكون مرنا بشكل فلسفي، حيث تقلل المرونة من الفضيلة وتزيد من الرذيلة. والمرونة المقصودة في الكتاب هي: المرونة في قول الحقيقة، والمرونة في الأمانة، والمرونة في أداء العمل، والمرونة في التسامح...الخ.
3. نحن نخاف من التغيير، رغم انه بدون التغيير لا يكون لدينا الا التشابه والملل.
4. الوقوع في شرك التفكير الايجابي الذي دمرت فلسفته العديد من الناس أكثر من أي مرض معروف في الطب. لقد تسبب التفكير الايجابي في وقوع كثير من المتفائلين المبدعين في التفكير الخاطيء. فكثيرا ما يكون التفكير الايجابي بديلا عن التفكير الواقعي، وذلك بادعاء اننا لا نواجه مشكلة مثلا، بينما نحن واقعون فيها. ان التفكير الايجابي لا يجب ان يكون بديلا عن الفعل.
5. نحن نخاف الدعابة والضحك أثناء العمل، رغم أن روح الدعابة ضرورية، وبدونها لا تكون هناك بهجة وسرور. قد لا يعني الضحك والدعابة أن نكون حمقى، ولكن يعني أن نستمتع بما نقوم به من عمل. ان متوسط ضحك الطفل حوالي 400 مرة في اليوم، بينما متوسط ضحك الكبار 15 مرّة فقط، فماذا حدث للضحكات الـ 385 الأخرى؟ ان بعض الناس يؤمن بشكل خاطيء بأن الجدية تعني الذكاء والمنطقية. ولكن العكس هو الصحيح، فلقد اعتاد هنري فورد ـ مؤسس شركة فورد للسيارات ـ أن يكتب نكاته ويأخذها الى بيت توماس اديسون ـ المخترع المشهور ـ ليقرأها له.
6. الخوف من الاطلاع والخوف من الأفكار المخالفة لنا، فكثير منا يصر على أنه "شخص ذو عقل متفتح" ولكنه يضيف الى ذلك "طالما انك تتفق معه!". ان العقل المطلع يشارك الأفكار والتفكير مع الآخرين، ولكنه عادة حذر من الافكار الضارة، وواضح، وليس مترددا بشأن القضايا، لكنه يفكر فيها من خلال البحث والجدال.
7. الخوف من الفشل: ليس الخوف من الفشل مشكلة، ولكن المشكلة أن تخاف من أن تفشل. ان الخوف من الفشل هو ما يجعلنا نعمل بجدية، وباهتمام كبير، كما يدفعنا الى تقييم احكامنا. ويمكن تحقيق الابداع عن طريق اجراء التجارب المستمرة، حيث يعد الفشل جزءا من العملية.
8. استعمال الكلمات الرنانة والبلاغة والجمل المعتادة والوعود الوردية والبيانات الوهمية. ان اجود المفاهيم في العالم لن تحرز نجاحا اذا لم يتم وضع الأساس لها أولا، وان الامر يرجع الينا في خلق مناخ حقيقي قبل تفهم افضل الافكار التنظيمية وجعلها جزءا من الثقافة. كما يعد صدق الهدف الأساس الذي يجب ان يعتمد عليه أي بيان ناجح للمهمة التي نقوم بها.
9. الخوف من الابداع والتفكير الابداعي، والخوف من ترك العادات القديمة، والاستمرار في التفكير المحدود. كل المنتجات التي يتمتع بها الناس اليوم هي نتاج الابداع اللامحدود والتفكير الذي يقفز على كل ما امامه من حواجز ومعوقات. يجب ان لا نسمح لافكارنا بان تكون محصورة ومحدودة من قبل حدود فعلية او تخيلية.
10. وهذه بعض الأفعال الأخرى التي قد تجعلنا محتجزين داخل الصندوق: التعصب ـ الجهل ـ الازدواجية ـ الهجوم بالالفاظ ـ الصداقة المزيفة ـ اللامبالاة ـ التسرع ـ ادعاء معرفة كل شيء ـ قول اشياء بلا معنى ـ استخدام لغة مبهمة ـ التكبر ـ عدم الدقة ـ الانطوائية ـ الحديث المبتذل ـ الخداع ـ العدوانية.
السؤال الآن: ما هي وسائل فتح الصدوق؟
يجيب الكتاب بأنه هناك ثلاث وسائل ابداعية يمكن استخدامها لفتح الصندوق، وهي: تدوين الملاحظات المصنفة، التفكير في الحواس الخمسة، واستخدام الألوان.
أ. تدوين الملاحظات المصنفة: ان التفكير بنمط الخطوط المستقيمة، والذي يعتبر من الناحية التقليدية مجالا للمهندسين والمحاسبين والمحامين، ليس دائما تفكيرا ملائما، وعلينا أن نتبع انماط التفكير الطبيعية، وهي القفز من موضوع الى آخر، والنظر الى نفس الشيء أو الفكرة من زوايا مختلفة، والتفكير في بدائل حتى يمكن التوجه الى العديد من الموضوعات على طول الطريق.
ب. التفكير في الحواس الخمسة، أو الاحساس المتزامن: بالرغم من أن مجرد حاسة واحدة من الممكن ان تعمل على مستوى الوعي، فان الحواس الأربع الأخرى تعمل على مستوى اللاوعي. لنفترض مثلا أنك نعمل على تصميم مدخلا لمبنى ترفيهي، لا تهتم فقط بالصور وشكل الكراسي والسجاد (البصر)، بل عليك أن تضيف أصوات موسيقى (السمع)، وروائح زكية (الشم)، وألعاب (لمس)، وحلويات (تذوق)، أي أنه يجب دمج الحواس الخمس كلها ليتم الاحساس المتزامن المطلوب.
جـ. استخدام الألوان: ان اللون يعد بعدا رابعا لحاسة البصر في عملية الاحساس المتزامن. علينا أن نتخلى عن عادة استعمال لون واحد ـ أزرق أو أسود ـ، ونستخدم كل الألوان المتاحة ـ الأزرق والأسود والأحمر والأخضر ـ. ويمكن استخدام اللون الأخضر لأفكارنا الخاصة، واللون الأسود للنص الرئيسي لملاحظاتنا، واللون الأحمر للمهام الضرورية المرتبطة بوقت معين، واللون الأزرق للنفقات والميزانيات وتقارير الكتب.
ويقول الكتاب أن عقولنا في حاجة الى تنقية من وقت الى آخر، فمعظمنا يعلق في الكثير من الأفكار التي تعوقه عن الوصول الى أفكار جديدة مفيدة، فالافكار القديمة تشدنا الى نتائج وعقبات تعوق الافكار المتجددة.
ويقترح الكتاب بعض النقاط الي تتكون منها ما يسمبه "معادلة النجاح"، وهي: المشاركة، الاطلاع، الالهام، المكان، والمنتج ـ وهذه باستعمال التصور والطريقة الصحيحة ـ، تنتج: 1. الاهنمام، 2. التعاون، و 3. الابداع.
1. الاهتمام يعني الشعور بحق باحساس شديد تجاه الاحتياجات البشرية. ان الاصرار على القيام بالصعب يأتي من الاحساس بالاهتمام العميق بهذه الاحتياجات وأيضا بالنجاحات التي حققتها البشرية.
2. أما التعاون فهو احتياج كل منا للآخر، فلا يوجد من هو ذكي بما يكفي للعمل بمفرده، والأمر يتعدى الرغبة في التعاون ـ من أجل العمل فقط ـ. كما أن المخزون الكبير من المعرفة المتزايدة يستلزم التعاون من أجل الافادة والاستفادة، ومن أجل ضم مساهماتنا الى مساهمات الآخرين.
3. الابداع هو عمل الجديد واعادة تنظيم القديم بطريقة جديدة. فلم تعد الحلول القديمة مفيدة في الوقت الحاضر، فقد بدأ الناس يملون من التكرار، والصور المملة، والتزييف، فالمكان الذي يفتقر الى الاثارة أو الخيال أو الابتكار أو مصادر الترفيه، يكون كئيبا بل فاقدا للحياة، ويكون أرضا قاحلة مستهلكة. ان التجديد والابتكار والاصالة تضرب بجذور عميقة في التربة الخصبة للابداع. وفي كل مكان تنظر اليه: من المواصلات الى الاسكان ومن الطب الى الرسوم المتحركة ومن الاحتياجات الاجتماعية الى التسلية ومن الاتصالات الى التعليم ـ لا ينتهي أبدا التحدي لابداع طرق وأساليب أفضل.
ولكي نجعل (الاهتمام والتعاون والابداع) في صالحنا تماما فان الامر يحتاج الى عناصر أخرى في معادلة النجاح ومنها ـ كما ذكرنا أعلاه ـ الناس والمكان والمنتج. فمن ناحية "الناس"، لقد أصبح للتطوير والتدريب الأهمية القصوى وذلك لأن المتطلعين والمتعلمين يميلون الى التعاون. ومن ناحية "المكان"، هو بيئتنا والتحدي الحقيقي هو أن نثري بيئتنا بقدر الامكان. اننا جميعا يجب أن نعيش ونعمل في اماكن خصبة. أما من ناحية "المنتج"، فان ابتكار نماذج وأصناف وخدمات جديدة يبدأ من تغيير العملية، فاذا رأينا حاجة ما، أو مشكلة، أو فرصة، فعلينا أن نتحرك للتعامل معها.
وينتقل بنا الكتاب الى المكون الآخر الذي يجعل معادلة النجاح ـ أعلاه ـ تنتج الاهتمام والتعاون والابداع، وهذا المكون هو دمج التصور والطريقة. ان تصورنا هو تعبير عن أهدافنا وطموحاتنا وأغراضنا، انه ما نرغب في القيام يه أو انجازه , وطريقتنا هي تعبير عن كيفية القيام بهذه الأشياء، لذلك يجب أن تكون الطريقة حقيقية في تصورنا.
ويحكي الكتاب قصصا جميلة ومعبرة عن بعض من كبار المبدعين والمبتكرين والمخترعين العظماء، الذين يرى أنهم كانوا يفكرون خارج الصندوق، ولذلك قدموا للانسانية الكثير من احتياجاتها وجعلوا حياة الناس أكثر متعة واشراقا، ومن أولئك: والت ديزني (مؤسس مدن الترفيه المعروفة باسمه) وتوماس اديسون (مخترع المصباح الكهربي ومئات الاختراعات الأخرى) وفرانك لويد رايت (المعماري المبدع)، على سبيل المثال لا الحصر. ويتخلل قصص هؤلاء المبدعين في الكتاب، بعضا من افكارهم واقوالهم وأفعالهم وعاداتهم وممارساتهم، التي يمكن لنا أن نستفيد منها ونوظفها ونجعلها علامات واشارات تؤدي بنا الى تطوير طرق عملنا وتصورنا، وجعل حياتنا أكثر جمالا ومتعة وسعادة.
ولكي نخرج من الصندوق ـ يقول الكتاب ـ يجب أن نتبع خطوات تعتبر في ذاتها مرحلة ابداعية للتطوير والتغيير، كما أنها هيكل يضمن أن الخطوات المناسبة لتنفيذ ما نريد القيام به، قد تم التخطيط له مسبقا، وليس في منتصف العملية، وهذه الخطوات هي: 1. الخطة الرئيسية، 2. تطوير الفكرة، 3. الاتصال، 4. التنظيم، 5. الاسترجاع، 6. لوحات البيانات، 7. ومشاركة الأفكار.
1. الخطة الرئيسية: وتتضمن القاء نظرة على كل أهداف ومتطلبات ونتائج عملنا ـ مشروعنا ـ، كما توضح المتطلبلت الاجمالية للوصول الى نتيجة نهائية مطلوبة ومحددة. وهذه الخطة الرئيسية يجب أن يعاد تشكيلها كلما تطور المشروع.
2. تطوير الفكرة: ويتعلق ذلك بالتوسع التام في الفكرة التي تكونها الخطة.
3. الاتصال: يعد الاتصال ضروريا للتعبير عن تفاصيل المشروع الرئيسي أو أي حدث أو نشاط آخر. ويتحقق ذلك بالاجابة عن الأسئلة التالية: من الذي يحتاج الى معرفة؟ ما الذي يحتاجون الى معرفته؟ متى يحتاجون الى هذه المعرفة؟ ما الوسيط الأفضل لتوصيل المعلومات؟
4. التنظيم: يعد التنظيم أمرا ضروريا لضمان عدم تجاهل أي تفاصيل، ومن ثم يحتاج تنفيذ المشروع الى تنظيم التفاصيل حتى لا يُنسى ابدا. ويتحقق ذلك بالاجابة عن الأسئلة التالية: ما الذي يجب القيام به؟ من الذين يقومون به؟ ما موعد الانتهاء منه؟ ما هو التدريب وما هي استراتيجيات التطوير المطلوبة؟
5. الاسترجاع: يعد الاسترجاع طريقة لاستخدام الأفكار السابقة، واذا كانت فكرة ما لا تصلح لمشروع معين لا يعني أنها لا تصلح لمشروع آخر، ومن الممكن أن يكون استرجاع الأفكار التاريخية نقطة انطلاق لأفكار جديدة، وعلى أساسها نقوم بعمل سبق القيام به. ان ذلك يوجب وجود ارشيف لحفظ الأفكار من الضياع.
6. لوحة الايضاح: وهي الشيء المرئي الذي يسمح لكل فرد أو فريق أن يهتم بالنشاطات اليومية، مثل: ما يجب القيام به ـ ما يتم القيام به ـ ما تم القيام به ـ المدخلات ـ المهام المعلقة.
7. مشاركة الأفكار: وهي تساعد في توليد الأفكار عن طريق الجمع المقصود بين الافكار غير المترابطة ظاهريا على شكل علاقات هادفة، وعادة ما تكون افكار غير مترابطة وتكون جيدة في ذات الوقت.
وفي الختام، يطمئننا الكتاب بالقول أن الفرصة مازالت سانحة لنا لتطوير العادات التي تساعد على تدفق الابداع بداخلنا، فالناس مبدعون وعباقرة ومجددون ومجتهدون، اذا ما تم تشجيعهم من حين لآخر. ويهمس الكتاب في أذن كل واحد منّا: "فكّر خارج الصندوق... ابتكر لنا شيئاً... متى؟... الآن!"
إضغط هنا لمراجعة التعليمات الخاصة بتعليقات القراء
...