الحقيقة بشأن الكذب!!
وسط هذا الكم الهائل من القنوات الاعلامية ووسائل الاتصال الشخصية والعامة، ووسط هذا العدد الهائل من المتحدثين في وسائل الاعلام المختلفة من مذيعين ومذيعات ومحللين وخبراء ونشطاء ودعاة وغيرهم، هل يمكن لنا أن نعرف الفرق بين من يقول الحقيقة ومن يخفيها، أو الفرق بين الشخص الصادق والمخادع ـ الكذاب ـ ؟!
هذا السؤال يمكن أن نجد الإجابة عنه ـ بطريقة غير مباشرة ـ في كتاب "الحقيقة بشأن الكذب" لكاتبه ستان روجرز ـ الصادر عن مكتبة جرير، 2010م. وأقول بطريقة غير مباشرة لأن الكتاب لا يتحدث عن الاعلاميين خاصة بل يتحدث عن أربع فئات هي: الحميمية وتضم أفراد العائلة والأقارب، والشخصية وتضم الأصدقاء وزملاء العمل، والاجتماعية وتضم الجيران والمعارف، والعامة وتضم ما نقابلهم من الناس الذين قد لا نعرفهم، مثل الاعلاميين على القنوات الفضائية والموظفين في الشركات والدوائر الحكومية.
في الفصل الأول من الكتاب، يبدأ الكاتب بالقول أن الكذب او الخداع لا ينطويان دائما على مكر أو خبث، فقد يكونا تملصا من اداء العمل او عدم تحري الدقة، او تقديرا لمشاعر الآخر، وطبعا في حالة الاعلام، قد يكون كل ما في الامر هو الهاء المشاهد بمعلومات تغيّب عنه الحقيقة. وهذا يعني أن الحديث هنا ليس عن مجرمين بل عن ناس عاديين ونحن من بينهم. ان صميم بنائنا الثقافي قائم على ما يعتبره الكثيرون أكاذيب غير ضارة ـ يقول الكاتب ـ .
إننا كل يوم نتخذ قرارات ونقوم باعمال استنادا الى معلومات نستمدها من ناس نعتقد أنهم مصدر ثقة وانهم مهتمون بمصالحنا وحريصون على سعادتنا وأمننا وسلامتنا، ولكن كيف نعرف أن هؤلاء فعلا صادقون لا يتلاعبون بالمعلومات لمصالحهم واهدافهم الخاصة أو مصالح واهداف فئاتهم أو جماعاتهم أو احزابهم ؟ وكيف لا نستطيع أن نتعرف على الكذب لدى غيرنا، في حين اننا نفعل نفس الشيء ـ نكذب ـ ؟
هل هناك أية دلائل على الكذب؟ هل هناك أعراض تساعدنا على التعرف على الخداع؟ يسأل الكاتب، ويجيب:
يتضمن أي موقف على الخداع ثلاثة عوامل وهي الاختيار والفرصة والقدرة. الاختيار: حيث يعتقد الكاذب أو يشعر بان ثمة ضغطا عليه حتى لا يقول الحقيقة كاملة، وكلما ازداد شعور المرء بتعرضه للخطر، ازداد شعوره بالاضطرار لأن يكون مخادعا. القدرة: ان قدرة الشخص على الكذب وكذبه يستندان ـ وبشكل أساسي ـ على مهاراته في التواصل وعلى قواه العقلية. الفرصة: وهي ايجاد الهدف السهل لممارسة الكذب والخداع.
نحن مسئولون عن تعرضنا للكذب والخداع ـ يقول الكاتب ـ، لاننا يجب علينا أن نقضي وقتا كافيا لنتعرف على مصادر معلوماتنا ـ أشخاص أو وسائل اعلام ـ من خلال دراسة اهدافها وسمعتها ونسبة صدقها مقارنة بغيرها، ولا نتكاسل عندما يتعلق الامر بتعيين موظف عندنا أو فني لاصلاح سيارتنا أو محاميا، ومن الأفضل ألا نخبر الآخرين ـ ما اسميناهم بالفئات غير الحميمية ـ عما اكتشفناه من دلائل على خداعهم، لأنهم بذلك يطورون من وسائلهم ويستمرون في خداعنا.
أمر آخر يجب الانتباه اليه ـ يقول الكاتب ـ وهو المراوغة، فبينما يتضمن الخداع المباشر تغيير أو تبديل مقصود للحقيقة، فان المراوغة تتمثل في حجب المعلومات، وليس في تغيير المعلومات. وحتى ينجح الخداع عن طريق المراوغة فيجب أن تتوافر لدى المراوغ فكرة عن مدى ما يحتاج المستمع لسماعه حتى يشعر بأنه حصل على الحقيقة، واعلامه ببعض الحقائق فقط وتركه يفترض الحقائق الباقية، أي يعطيه فقط ما يكفي لأن يصل الى استنتاج خاطيء. ويمكن هزيمة المراوغ بسؤاله أسئلة كثيرة عن كل عنصر نشعر بانه غامض او غير مكتمل، ولا نثق الا فيما نعرف انه حقيقي.
ونحن نتلقى المعلومات حقيقية وغير حقيقية، أو نتفاعل معها أو مع مصادرها، نتعرض ـ يقول الكاتب ـ للضغوط على ثلاثة مستويات: الغضب أو الاكتئاب مثلا، وذهنيا: النسيان والارتباك والهلوسة مثلا. وان كل الاشارات الدالة على الخداع ما هي الا صور لهذه الضغوط، ومع ذلك فليس كل صور الضغط دليلا على الكذب.
في الفصل الثاني من الكتاب، يتطرق الكاتب لأساليب التواصل بين البشر، ويذكر بعض الارشادات التي تساعد في اكتشاف الكذب والخداع. فنحن نتواصل ـ يقول الكاتب ـ من خلال لغة الجسم أو السلوك غير اللفظي ونوعية الصوت ومضمون الحديث والتعبيرات الدقيقة. وتمثل لغة الجسم 65 في المائة من مخرجاتنا في التواصل، بينما تمثل نوعية الصوت ومضمون الحديث والتعبيرات الدقيقة 35 في المائة منها.
كيف نتعرف على السلوكيات في كل فئة من تلك الفئات الأربع، ونحدد بالتالي مدى مصداقية العبارات التي يقولها لنا الآخرون؟
ان الفئات الأربع سالفة الذكر ـ يقول الكاتب ـ تمارس عملها في حياة كل منّا، كما لو كانت مقطوعة موسيقية رباعية الآلات، في تناغم وانسجام، ويمثل الخداع ـ والكذب ـ ما يشبه نشاز احدى هذه الالات، وبالتالي فهو هدم للتوازن الدقيق لنظام التواصل بيننا. وبينما نستطيع التحكم في تفاعلاتنا المعرفية فان الانفعالية منها لا نستطيع التحكم فيها عندما نكذب أو نمارس الخداع. فالكذاب أو المخادع يستطيع التخطيط لما يريد أن يقول، ولكن من الصعب أن يخطط لردود الأفعال الانفعالية ـ في مقابلة أو لقاء شخصي أو إعلامي مثلا ـ، حيث يكتشف الناس خداعه.
ولمساعدتنا في اكتشاف الخداع يسرد الكاتب سبعة ارشادات وهي:
1ـ الثبات: يجب أن تتعرف على السلوك الثابت أو الطبيعي لمن تتعامل معه، فالسلوك المخادع يؤدي الى اختلاف او تغير في الحالة الانفعالية أو العقلية الثابتة ـ يغير المتحدث من جلسته أو يضع يديه وراء رأسه مثلا أو يتصبب عرقا ـ.
2ـ التغير: أي ظهور سلوك مختلف أو الكف عن سلوك ثابت، يساعد في التعرف على الخداع، فقد يبدي سياسي أو اعلامي تغيرا ملحوظا في ارتفاع الصوت أو الغضب عند سؤاله عن أمر معين مما ينبيء بكذبه أو خداعه.
3ـ التجمعات السلوكية: ان انواع الايماءات التي نبديها قد تتغير بتغير درجة تصنيفنا لمن نتعامل معه على مستوى علاقتنا به على صعيد مجموعة العلاقات الاربع التي سبق مناقشتها ـ الحميمية والشخصية والاجتماعية والعامة ـ لذلك وجب الانتباه لذلك، عند محاولة التعرف على الكذب والخداع، وعدم الاستناد الى ملاحظة سلوك واحد فقط.
4ـ الاتساق: ان رد الفعل المتناسق تجاه موضوع محدد قد يكون مؤشرا كبيرا على الخداع، فليست كل التغييرات التي نلاحظها على سلوكيات من نريد التحقق من صدقه تشير الى انه مخادع او كاذب، لانه ربما يقع تحت تاثير ضغط عام.
5ـ التصورات المسبقة: ينبغي ان نتعامل بعقل متفتح، لان الملحوظات المستندة المسبقة او الافكار الخاطئة لا يمكن الوثوق بها. انه من الخطورة محاولة التعرف على الخداع استنادا الى سلوك واحد. كما انه من الخطورة تقرير نتائج أو استنتاجات في البداية ثم ممارسة نوع من الجدل لدعم هذه الاستنتاجات.
6ـ التلويث: قد تؤثر سلوكياتك على سلوكيات وردود افعال من تتعامل معه بطريق تلوث دقة ملحوظاتك، ان محدثك يقرا سلوكياتك ويحللها كما تقرا انت سلوكياته وتحللها، فقد تكون سلوكيات الآخر نتيجة لما يراه في سلوكك.
7ـ الفحص: قبل التوصل الى اية استنتاجات يجب مراجعة ملاحظاتك وفحص بياناتك ومعلوماتك، واذا كان لديك شكوك في صدق المعلومات لا تتردد في تأجيل الوصول الى نتائج حاسمة وقضاء وقت أكثر في فهم السلوكيات والتصرفات والانفعالات والايماءات ـ اللغة اللفظية وغير اللفظية عموما ـ .
في الفصل الثالث يتحدث الكاتب عن اللفظ الصوتي ويقول انه رغم من انه يمثل 20 في المائة فقط من مجمل ما يصدر عن الفرد من اشارات ورسائل يبثها عندما يتعامل مع غيره، الا انه بالغ الاهمية، وعادة ما تكون الدلائل اللفظية ـ اذا انتبه اليها ـ الأكثر توضيحا لكذب الشخص او وقوعه تحت ضغط. وللسلوك اللفظي ثلاث فئات هي نوعية الصوت ووضوح الصوت ومضمون الحديث.
وبينما تتكون نوعية الصوت من ثلاثة مكونات هي: طبقة الصوت وحجم الصوت ومعدل سرعة الكلام، فان وضوح الصوت ـ أو بالاحرى عدم وضوحه : التمتمة والتلعثم والغمغمة والضحك العصبي والتنهد والجمل الناقصة ـ يشير الى خلل وظيفي في الكلام قد يشير الى ان المتحدث ربما يعتبر الفرصة سانحة للخداع او الكذب. يبقى مضمون الحديث الذي يمثل اقل نسبة مئوية من اجمالي فئات السلوك اللفظي الثلاث ـ 7 في المائة ـ .
وفي الفصل الرابع يتحدث الكتاب عن التواصل غير اللفظي، ويقول أن التقديرات تشير الى ان اكثر من ثلثي صور التواصل الانساني تتالف من سلوكيات غير لفظية ـ او سلوكيات لغة الجسم ـ، وينبه الى ضرورة ملاحظة اشارات لغة الجسم التي لا تتفق مع غيرها او تتناقض معها والتي لا تتفق مع السلوكيات اللفظية لمن نتعامل معه.
وصنف الكاتب لغة الجسم الى اربع فئات او مؤشرات بسيطة هي: الراس والعينين والذراعين والرجلين. فيجب ملاحظة وضع الراس أو ميله، وتعبيرات الوجه، او تقلصات عضلات الوجه، وتجاعيد الجبين. أمر هام آخر يجب الانتباه اليه وهو ملامسة اليد للراس، وحركة اليدين والذراعين والساقين والرجلين وحكة الاذن او الحفر بداخل الاذن، فهذه الحركات قد تنبيء عن نوع من اخفاء الانفعالات الناجمة عن محاولة الخداع او الكذب. كما ان اغلاق الفم باليد قد يؤول على انه محاولة للسيطرة على المخرجات اللفظية غير المرغوبة او حجبها.
وقد لاحظ الكاتب انه عكس المتعارف عليه عن اهمية التواصل البصري، لا يمكن الاعتماد كثيرا على التواصل البصري لتحديد الخداع، رغم انه يمكن الوصول الى معلومات حول العلاقة العقلية والانفعالية من خلال ملاحظة التغير في مظهر او هيئة العينين او الحزن او البكاء. كما لاحظ ان مستوى التواصل البصري قد يختلف استنادا الى الخلفية الثقافية او العرقية بل انه قد يعتمد على مدى انطوائية الفرد او انبساطيته.
وفي الفصل الخامس من الكاتب يتحدث الكاتب عن رد فعلنا ـ نحن البشر ـ تجاه ما يقع حولنا من احداث في طريقتين رئيسيتين هما: الاستجابة الانفعالية والاستجابة العقلية ـ المعرفية ـ. وتندرج سلوكياتنا تجاه ما نواجهه من احداث ضاغطة تحت خمس فئات عامة وهي: القبول، والمساومة، والغضب، والاكتئاب، والانكار، وعرفها الكاتب كما يلي:
أ ـ القبول: يعرف الكاتب القبول بانه آلية الاستجابة التي نتحمل من خلالها مسئوليتنا عن افعالنا في نهاية الامر.
ب ـ المساومة: المساومة هي سلوك لمحاولة اخفاء الحقيقة ـ مراوغة ـ، وهي احدى الدرجات البسيطة من صور الخداع الكثيرة، التي فد تستعمل فيه العواطف والجمل الاخلاقية والمجاملات.
جـ ـ الغضب: الغضب ليس صورة نشطة من صور الخداع ـ كالمساومة ـ وليس هو قلب الخداع كالانكار، ومع ذلك كثيرا ما نحاول تحجيم استجابة الغضب الانفعالية بردود افعال معرفية. والواقع هو ان الغضب يصدر عنا عندما نشعر بان الحقيقة تغمرنا وتضغط علينا، وتزداد احتمالية استجابة الغضب ايضا عندما يوضح احدهم فشلنا وأخطائنا.
د ـ الاكتئاب: الاكتئاب الذي يعنيه الكاتب هو سلوك استجابي وليس الاكتئاب بمعنى المرض النفسي المعروف، وتكون استجابة الاكتئاب احدى صور الانعزال عن الحقيقة التي يحاول فيها المرء الانسحاب من الظروف غير المريحة، وتشبه استجابة الاكتئاب استجابة الغضب في وجود عنصر عدوان فيها الا انه عدوان داخلي.
هـ ـ الانكار: يعرف الكاتب الانكار بانه رفض الحقيقة والواقع، وتحدث نسبة أكثر من 90 في المائة من حالات الخداع في اطار هذه الحالة الاستجابية، فعلى المنكر ان يقنع نفسه والمحيطين به ان ما يعتقده الجميع حقيقة أو واقع هو في الحقيقة خطأ في التصور والادراك.
وفي الختام، ينهي الكاتب كتابه بالتاكيد على انه ليس هناك سلوك واحد ـ سواء لفظي أو غير لفظي ـ من شأنه أن يثبت أن من تتعامل معه صادق أو مخادع. كما ينبه الى اهمية ان نلاحظ "كل السلوكيات" التي تصدر عن الأشخاص أثناء تعاملنا معهم، واهمية البحث عن تغيرات النمط الثابت في "كل السلوكيات"، وعدم الاقتصار على ملاحظة السلوكيات الفردية أو المنعزلة.