هل ثمة أسباب لنجاح الأمم وفشلها عبر التاريخ؟ ما هي اصول تقدم الأمم وثرائها وازدهارها؟ وما أسباب تخلف الأمم وفقرها وبؤسها؟ لماذا تكون ظروف المعيشة على طرفي نقيض في مدينتين في دولتين لا يفصل بينهما سوى سور أو طريق أو بوابة صغيرة؟ ما الذي يمنع الناس ـ مثلا ـ في مصر والمكسيك، من أن يعيشوا حياة مزدهرة كالناس في الولايات المتحدة وبريطانيا؟ هل هو الفقر وحده السبب أم ثمة أسباب أخرى لذلك؟ بل لماذا بعض الدول الغنية شعبها بائس فقير؟
هذه الأسئلة وغيرها، يحاول الإجابة عنها كتاب "لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر"، تأليف: دارون أسيموجلو وجيمس روبنسون، منشورات كراون، الطبعة الأولى سنة 2012م.
ولقد واكب نشر هذا الكتاب انطلاقة "الربيع العربي"، مما جعل المؤلفان يعيران كثير اهتمام لما يحدث في الشرق الأوسط من تغيير، خاصة ما حدث في مصر وتونس ـ لم يتعرض المؤلفان لما حدث في ليبيا لأنهما أكملا كتابهما قبل انهيار نظام الطاغية القذافي ـ وان كانا ذكرا ان ليبيا مقبلة على ثورة، وكذلك ـ البحرين وسوريا واليمن ـ.
في حديثهما عن مصر، يقول المؤلفان أن نظام الرئيس الأسبق مبارك تمكن من حصر السلطة في نخبة قليلة استأثرت بكل شيء، على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب التي كانت تعيش في فقر مدقع. ويصلان الى نتيجة ان حصر السلطة في القلة يعني حصر الثروة وبالتالي معيشة أغلبية الشعب تحت خط الفقر، ولكي تتوزع الثروة على الناس يجب أن تكون في الدولة مؤسسات يتمكن الناس من خلالها من ممارسة دورهم السياسي ومن ثم الحصول على حقوقهم الأساسية في الثروة وأكثر من ذلك.
وكان من الممكن لمصر ـ يقول المؤلفان ـ أن تتوفر فيها أسباب الازدهار لو أنها انتهزت فرصة وصول أسس التكنولوجيا وبذور الثورة الصناعية مع نابليون سنة 1798م، ولكنها لم تفعل، حيث ان ما حدث في مصر ـ بعد خروج نابليون ـ من أحداث، بما في ذلك احداث 1952م، لم تكن ثورات جذرية كتلك التي حدثت في انجلترا سنة 1688م مثلا، ولكنها كانت تغييرات في النخب التي استمرت في الاستئثار بالسلطة وبالتالي بالثروة التي حرم منها الشعب المصري في كل العهود من حكم العثمانيين الى حكم مبارك. فتركيبة المجتمع الاساسية ظلت كما هي والذي تغير عبر العهود المتتابعة كان شكل ورجال الحكم وبطاناتهم فقط.
والسؤال هل يمكن أن تتغير الأمور تغيرا حقيقيا الى الأحسن الآن؟
كل شيء ممكن ـ يقول المؤلفان ـ فما حدث في الولايات المتحدة وانجلترا، بل وفي اليابان وبوتسوانا والبرازيل قابل لأن يحدث في أي مكان، ولكن يجب أن يحدث تحول سياسي اساسي ليحدث التحول من التخلف الى التقدم ومن البؤس الى الازدهار. يجب أن تتكون مؤسسات سياسية حقيقية تتمكن من تمكين كل الناس ـ لا النخبة فقط ـ من المشاركة في الحكم وبالتالي الحصول على حقها من الاستثمارات والضمانات الاقتصادية والاجتماعية التي تزدهر بها حياتها، لا مؤسسات شكلية هشة تضحك بها النخب على الشعب الذي يعيش على هامش الحياة.
ولبيان الفرق الشاسع بين الازدهار والسعادة في بعض البلدان، والفقر والتعاسة في بلدان أخرى ـ رغم كونهما في نفس القارة وقد لا تفصل بينهما الا أسوار أو طرق حدودية ـ يذكر المؤلفان مثال مدينة "نوجاليس" التي يقع نصفها الشمالي في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة، ويقع نصفها الجنوبي في المكسيك. ان متوسط دخل المواطن الامريكي في نصف المدينة الشمالي ثلاثون ألف دولار في السنة، والأطفال يرتادون المدارس، والناس يعيشون في أمان ويحصلون على خدمات تعليمية وصحية واجتماعية وترفيهية راقية. وعلى النقيض من ذلك نجد أن المواطن المكسيكي في النصف الجنوبي من مدينة نوجاليس يحصل على أقل من ثلث متوسط دخل الامريكي ومعظم الاطفال لا يرتادون المدارس، والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية معدومة، والفساد والرشوة والبؤس في كل مكان.
لا يوجد فرق في المناخ أو حتى الطقس أو الأمراض السارية، بين نصفي المدينة، ولكن ثمة فرق في الحماية من الأمراض وفرق في حماية البيئة وصلابة البنية التحتية، وهناك فرق في احترام اشارات المرور واحترام القانون. لماذا؟ هل لأن سكان الجزء المكسيكي من المدينة أصولهم تعود الى الهنود الحمر، بينما أصول سكان الجزء الأمريكي من المدينة تعود الى الجنس الأبيض في أوربا؟ لا نعتقد ذلك ـ يقول المؤلفان ـ، لأن أصول سكان طرفي المدينة واحدة، فقد كانت المدينة واحدة الى ما بعد الحرب المكسيكية الامريكية 1846م ـ 1848م، ولم تنقسم الا سنة 1853م ـ عندما اشترت أمريكا بعض ألأراضي المكسيكية ـ وأصبح الجزء الشمالي من المدينة تابعا للولايات المتحدة وظل الجزء الجنوبي منها تابعا للمكسيك.
لماذا الفرق في المعيشة إذن ؟
يقول المؤلفان أن السبب هو أن سكان نوجاليس الامريكية لديهم حق المشاركة والاستفادة من مؤسسات عديدة هي جزء من النظام المؤسساتي الأمريكي، السياسي وبالتالي الاقتصادي، ولديهم كامل الحرية في اختيار أين يعملون وكيف، وفي أي مدرسة يضعون اولادهم، ولديهم بنية تحتية مبنية على تكنولوجيا حديثة مهتمة بالانسان والبيئة، وفوق كل ذلك يعيشون في مناخ ديمقراطي يسمح لهم باختيار ممثيلهم في مؤسسات الدولة المحلية ـ البلدية والمحاكم والشرطة مثلا ـ، ومؤسسات الدولة الوطنية ـ مجالس الولاية ومجلس النواب ومجلس الشيوخ مثلا ـ. أما في نوجاليس المكسيكية فليس لديهم هذه الامكانيات والحقوق بسبب وجود مؤسسات شكلية لا تحقق للمواطن أي تطور وازدهار، لأنها جزء من نظام النخبة في العاصمة الذي يحرص على حصر السلطة وبالتالي الثروة في يد القلة من السكان، بينما تعيش الأغلبية من المواطنين في فقر وبؤس شديدين. ويمكن أن نقول نفس الكلام عن أمريكا الجنوبية ككل ـ يقول المؤلفان ـ باستثناء دولة أو دولتين على الأكثر.
واذا ما عدنا الى الوراء قليلا ـ يقول المؤلفان ـ نجد أنه ليس مصادفة، ولكن لأسباب تاريخية وثقافية واقتصادية، أن الولايات المتحدة ـ وليست المكسيك ـ أقرت وطبقت دستورا مبنيا على أسس ديمقراطية تحد من سلطة الحكام وتعطي المواطنين الحق في المشاركة في السلطة واختيار حكامهم والحق في عزلهم، ومن شأن ذلك الاتفاق على ضرورة تداول السلطة وعدم بقاءها في يد نخبة محدودة لعقود وعقود.
ولم يكتب الدستور الامريكي سنة 1787م ـ بُعيد استقلال الولايات المتحدة ـ على عجل أو لمجرد كتابة دستور، بل كان ـ في رأي مؤلفي الكتاب ـ ثمرة جهود ومفاوضات وتاريخ طويل من العمل السياسي على كل المستويات، بينما اذا نظرنا الى ما حدث بُعيد استقلال المكسيك، نجد أن نخبة محدودة من المناضلين في حرب التحرير ـ على غرار ما يشبه الانقلابات في التاريخ الحديث ـ فرضوا على الناس دستورا شكليا مكتوبا على عجل ومفصلا على مقاس الطبقة الحاكمة، أي النخبة المحدودة التي تمكنت في وقت قصير من الاستئثار بالسلطة كاملة وبالتالي الثروة ولم تحسب أي حساب للمواطنين، الا كونهم ضرورة لاستمرار عجلة الاقتصاد والحياة التي لا تدور بدونهم.
ويعتقد المؤلفان أن أصل أسباب الفرق بين الحياة المزدهرة الآمنة في الشمال ـ الولايات المتحدة ـ والحياة البائسة وعدم الاستقرار في الجنوب ـ المكسيك ـ، يعود الى تاريخ الحروب، فبينما عاشت الولايات المتحدة سنوات كثيرة من الاستقرار ومرت بحروب قليلة، عاشت المكسيك في حروب دائمة تخللتها سنوات قليلة فقط من الاستقرار والأمن الاجتماعي.
ويرى المؤلفان أن مؤسسي الولايات المتحدة استفادوا من الثورة الصناعية ـ، وفتحوا الباب امام الناس للابداع والاختراع والاستثمار والحرية، بينما اهتمت النخبة الحاكمة في المكسيك بالثورة السياسية الشكلية فقط، والتي تحولت فيما بعد الى انقلابات عسكرية تستلم النخبة فيها السلطة وبالتالي الثروة، لتستلمها منها نخبة أخرى، بينما يُبعد المواطنون عن كل مشاركة في الحكم ـ وبالتالي يبعدون عن حقهم في الاستفادة من ثروات بلادهم ـ، ويستمر مسلسل الفقر والتخلف، لا ابداع ولا اختراعات ولا ازدهار ثقافي أو اجتماعي او اقتصادي، لأن كل ذلك لا يكون بدون ازدهار سياسي يعطي كل ذي حق حقه في المشاركة في المؤسسات السياسية وحق تداول السلطة وحق تكوين الأحزاب وحق الحياة الحرة الكريمة.
ويخلص المؤلفان في نهاية الجزء الأول من كتابهما إلى إن الفرق بين النصف الشمالي من مدينة نوجاليس ـ في الولايات المتحدة ـ السعيد، والنصف الجنوبي من المدينة ـ في المكسيك ـ البائس، هو صورة مصغرة من الفرق بين جزء العالم المزدهر المتقدم، وجزء العالم المتخلف البائس. ومن اجل ان يزدهر العالم البائس يجب على الناس فيه أن يعوا أن المؤسسات الديمقراطية والمشاركة السياسية هي كلمات السر التي تفتح الأبواب واسعة أمام المشاركة في الثروة والمؤسسات الاقتصادية، وبدون ذلك تظل النخبة ـ قليلة العدد ـ متحكمة في السياسة ـ وبالتالي في الثروة والاقتصاد ـ وتستمر أغلبية المواطنين في العيش في فقر وبؤس شديدين بدون أمل في حياة كريمة هانئة.
إضغط هنا لمراجعة التعليمات الخاصة بتعليقات القراء