حكايات "جامع الملك" اجدابيا (1)
من أهم معالم اجدابيا القديمة سور طويل مرتفع تبرز في أجزاء منه قلاع صغيرة توجد بها فتحات صغيرة يمكن للمدافعين عن ما بداخل السور من توجيه بنادقهم الى خارجه. وهذه الفتحات تطل في داخل السورعلى نفق طويل يستطيع شخص متوسط الطول أن يسير فيه بسهوله ويتنقل من فتحة الى أخرى ليراقب ما بخارج السور وينذر المدافعين اذا ما رأى خطرا ما أو يوصي بفتح الأبواب اذا كان القادم شخصا له الحق في الدخول.
ذلك السور كان يحيط بمنطقة تاريخية قديمة تسمى "الرياسة"، ومكانها كان بجانب العيادة المجمعة وراء شارع طرابلس من الجهة المقابلة للجامعة ـ التي كانت في الماضي مدرسة اجدابيا الداخلية ـ ومجاورا لشارع المزرة "المجزرة = السلخانة" الطويل الذي يمتد من وسط اجدابيا الى سلخانة اجدابيا القديمة ـ سُمّي هذا الشارع في فترة ما بـ "شارع سان لو" كما سمي في فترة أخرى بـ "شارع الجديد"، ويقع بداخل السور المبنى الأثري الفاطمي الموجود جزء منه الآن.
بالقرب من السور ووراء المبنى الفاطمي سور أبيض أصغر يحيط بقصر الملك، وأمام باب سور قصر الملك يقع مبنى أبيض هو "جامع الملك". ولقد كنت كلما ذهبت للصلاة بجامع الملك، أمرّ بـ "سور الرياسة"، حبث كان بيتنا يقع بين مدرسة اجدابيا الداخلية والرياسة، ولقد كنا نلعب كرة القدم بملعب داخل السور بالقرب من بابه الرئيسي الكبير المطل على بيتنا.
وقد كنت في صباي أصلي الفجر حاضرا بجامع الملك أحيانا خاصة أيام الامتحانات، وأجد نفسي الصبي الوحيد الذي يصلي مع قلة من الرجال الكبار، وكانوا ينظرون الي نظرات ملؤها الاعجاب والعجب، بل أن بعضهم نقل خبر صلاتي لصلاة الفجر حاضرا إلى والدي الذي سألني عما اذا كان صحيحا وعندما أجبت بالايجاب مسح على رأسي بافتخار.
في يوم من الأيام صليت الفجر، وبعد نهاية الصلاة لم أخرج مباشرة من الجامع، بل وقفت وصليت عدة ركعات وأطلت الركوع والسجود وعندما انتهيت من صلاتي، نظرت حولي فلم أجد أحدا. كل المصلين غادروا وتركوني في الجامع وحدي.
نظرت حولي وجذبني منظر غرفة زجاجية تقع في ركن الجامع الأيمن على يسار المنبر. هذه الغرفة الصغيرة كما كان يقال لنا هي مُصلّى الملك، ويمكن للملك أن يصلي بها فيرى من بداخل الجامع دون أن يراه أحد. نظرت الى الغرفة الزجاجية بشغف وتمنيت لو أنني استطيع دخولها والصلاة فيها واكتشاف ما بداخلها والنظر من داخلها الى ما يحيط بها دون أن يراني أحد.
يقال أن الملك يستطيع دخول هذه الغرفة والصلاة وراء الامام مع الناس ويخرج منها دون أن يراه أحد، لأنه يستطيع الدخول اليها من نفق خاص يبدأ من تحت أحدى غرفات قصره وينتهي بفتحة تحت الجامع تؤدي الى الغرفة الزجاجية.
تأكدت من عدم وجود أحد غيري بالجامع واتجهت الى الغرفة الزجاجية وبدأت أطرق الزجاج طرقا خفيفا في أجزاء مختلفة منه، ثم تخليت عن الطرق الخفيف، وبدأت أدفع الزجاج بكلتا يدي. وفي لحظات استكشافي وجدت أن جزءا صغيرا مربعا من الزجاج يختلف لونه عن غيره. دفعت هذا الجزء بقوة فارتد الى الوراء فاتحا نافذة صغيرة ومحدثا صريرا خفت أن يسمعه شخص ما فينفضح أمري، فألقيت بجسدي الصغير في النافذة الصغيرة وأغلقتها بسرعة وأغمضت عيني موجها سمعي الى الخارج لأتأكد من أن لا أحد رآني أدخل النافذة أو سمع أي أصوات لافتة للانتباه.
بعد ان انقضى وقت طويل لم أسمع أثناءه أي صوت بالخارج، تأكدت من أن لا أحد غيري في الجامع في هذه الساعة المبكرة من الصباح، وأن لا أحد رآني أدخل الى الغرفة الزجاجية من نافذتها الصغيرة.
فتحت عيني داخل الغرفة فوجدتها غاية في البساطة، ليس بها أكثر من حصير في ركنها تتوسطه سجادة صلاة، ولكن ما استرعى انتباهي هو وجود لوحا خشبيا مربعا في وسط الغرفة في منتصفه حبل قصير.
دون تردد جذبت الحبل فارتفع اللوح الخشبي، فازحته جانبا ليندفع هواءا باردا من فتحة كان يغطيها. ونظرت بداخل الفتحة فرأيت سلما حجريا ضيقا. بهدوء وفي صمت شديد وضعت قدمي اليمني على درجة السلم الأولى ثم الثانية ثم قدمي الثانية على درجة السلم الأولى، ووجدت الهبوط من السلم سهلا فاسرعت في هبوطي الى ان انتهى بي ذلك الى نفق مظلم أضاء بعض جنباته ضوء الصباح الذي تسرّب من بعض الشقوق في سقف النفق.
سرت في النفق مسافة طويلة قبل أن اسمع أصواتا خافتة تاتي من بعيد. وكانت الاصوات تعلو كلما ابتعدت عن الجامع. وعندما اقتربت أكثر من الأصوات بدا لي واضحا أصواتا لأشخاص أعرفهم.
في نهاية النفق وجدت بابا مغلقا ونافذة مفتوحة، فنظرت من النافذة لأرى أنها تطل على صالة كبيرة وسطها طاولة كبيرة تحيط بها كراسي صغيرة يجلس عليها رجال كثيرون يبدو أنهم في اجتماع سرّي.
تمكنت بسهولة من معرفة بعض الرجال الجالسين : بوحرارة، الكزة، الهتش، بوجلاوي، المهندس، الدلح، مومن، الرقعي، بوسهل، بوحرورة، بوسنينة، بوسيف، امراجع، جاد المولى، البرداح، الهمالي، نشاد، بن عمران، احنيش، اجبيل، البرصة، احشاد، بوطواقي، النقاز، عجبه، الزواوي، اعبيد، دقاش، شرمدو، بوهدمة، وآخرون لم استطع رؤيتهم.
وضعت أذني بالقرب من النافذة لأفهم ما أسمعه من همهمات خافتة. كانت الكلمات التي كررها واحد بعد الآخر هي: اليوم زيارة الملك ـ العشية ـ بعد العصر ـ يزور الملك اجدابيا اليوم في طريقه من عاصمة ملكه الشرقية "بنغازي" إلى عاصمة ملكه الغربية "طرابلس" ـ استقبال المسئولين والأعيان ـ اليوم عطلة للمدارس ـ الملك سيخرج في شرفة من شرفات قصره ليحي شعبه المحيط بقصره ـ استعراض للفرسان ـ التخطيط مع بنغازي وطرابلس لوصول الملك بسلاسة ومغادرته بسلاسة ـ مرافقة رجال المرور للملك من سيدي عبدالعاطي إلى القوس.
بينما أنا أحاول فهم تفاصيل الموضوع، امتدت يد رجل الى كتفي وقبل أن أتمكن من رؤية وجه الرجل، حملني على ظهره وسار بي مسافة قصيرة، ووجدته يضعني أمام مبنى عرفت فيما بعد أنّه المتصرفية، قائلا: ما الذي جاء بك الى المتصرفية ؟ ماذا تريد ؟ أنت ولد من؟ كيف وصلت إلى مكتب السيد المتصرف دون أن أراك؟
لم أكن مهتما بالاسئلة ولا الاجابة عليها بقدر ما كنت أشهر بخيبة الأمل لكون ذلك النفق لم يوصلني الى قصر الملك كما اعتقدت، بل أوصلني الى المتصرفية، حيث يجتمع المتصرف بالمدير وعميد البلدية ورئيس الحرس البلدي ونواب المنطقة وأعضاء مجلس شيوخ ورياضيين وطلاب ومدراء مدارس وتجار وشيوخ قبائل وشيوخ دين ومسئولين عن الكهرباء والمياه والمرور وغيرهم، لمناقشة موضوع زيارة الملك، وضرورة تعاون الجميع من أجل انجاح الزيارة والاحتفاء بعاهل البلاد بطريقة تليق بجلالته. أعاد الرجل أسئلته، ولما وجدني لا أجيب على أي من أسئلته تركني أمام مبنى المتصرفية ودخل المبنى.
كان يجب أن أكتفي بمعرفة أن مولانا الملك سيزور المدينة، وأننا سنخرج لاستقباله، ونرفع الاعلام الملونة الصغيرة لتحيته، ونهتف باسمه "عاش الملك"، وندعو له بطول العمر، كما نهتف: "عاشت ليبيا عاشت ليبيا". وكان يجب أن أكتفي بأنني ربما أحظى في هذه الزيارة الميمونة باشارة من يديه الكريميتين وربما ابتسامة حنونة، الا أنني كنت مهتما أكثر من ذلك بأمر النفق. لا يمكن أبدا أن يؤدي النفق تحت الجامع فقط الى المتصرفية، فقد أكون أخطأت في سيري تحت الأرض، نتيجة لقلة الضوء المتسرب من شقوق سقف النفق، وخرجت من النفق قبل نهايته.
الآن وقد تأكدت من وجود نفق تحت جامع الملك، أين يمكنني معرفة الى أين يؤدي هذا النفق. لا يجب أن أسأل أحد عن ذلك لأن نتيجة ذلك هو حرماني من معرفة السرّ، فهذه الأمور لا يصدقها أحد، بل وبعتبر معظم الناس الاهتمام بها ضياع للوقت وتصرف غريب قد يؤدي الى نتائج لا يحمد عقباها. لماذا لا أبحث عن معلومات عن النفق في المكتبة العامة.
تحسست بطاقة اشتراكي في مكتبة اجدابيا العامة القريبة من جامع سيدي مومن، واتجهت اليها. أمناء المكتبة كانوا موجودين جميعا من النجمي الى الفاخري الى بعض الأمناء الجدد الذين لم أرهم من قبل، وكانوا يستعدون لمغادرة المكان للاشتراك في الاستعدادات لاستقبال الملك، وكان علي أن أستجديهم للانتظار قليلا، واطلعتهم باختصار على ما اريد استعارته وهو: كتب تاريخية عن الجوامع، كتب بها صور جوامع وصور خرائط بناءها.
اتجه أحد الأمناء الجدد الى أحد الأرفف وأخرج كتابا بالايطالية عليه صورة جامع يشبه جامع سيدي مومن في وسط اجدابيا، وقال لي: هذا كتاب تاريخي عن الجوامع، ورغم أنه بالايطالية الا انه مليء بصور جوامع كثيرة، ويمكنك الاستفادة منه.
أخرجت بطاقة اشتراكي في المكتبة وسلمتها للامين الذي كتب بها رقم الكتاب وتاريخ استعارتي له والتاريخ الذي يجب أن اعيده فيه، ووقع الى جانب رقم الكتاب، ووضع بطاقة اشتراكي في مظروف صغير ملصق بالغلاف الخلفي للكتاب وسلمني الكتاب، واتجهت بالكتاب مباشرة الى بيتنا. لم يكن في طربقي من المكتبة العامة الى بيتنا ما ينبيء بقرب زيارة الملك للمدينة.
في المربوعة استلقيت على الارض ووضعت امامي كتاب الجوامع الذي استعرته. الامر الاول الذي اكتشفته أن الصورة التي على الغلاف ليست صورة جامع سيدي مؤمن، بل هي صورة لجامع يشبهه تماما هو جامع لا يزال موجودا في المقرون مجاورا للفندق القديم المقابل لمبنى الكوليدجو ـ كلية تدريب مهني في المقرون بناها الطليان ـ. الاكتشاف الثاني أن الكتاب ليس عن جوامع اجدابيا، بل عن جوامع في مناطق مختلفة في ليبيا ـ برقة بالتحديد ـ. الاكتشاف الثالث هو أن صور الجوامع متشابهة الى حد بعيد، وبالكتاب خريطة واحدة فقط.
دققت النظر في الخريطة وعلى الخصوص أرضية الجامع فوجدت أن ثمة شكل هلالي على هيئة نصف دائرة يحوي خمسة مثلثات ـ على هيئة جزء من نجمة بها أكثر من خمسة رؤوس تلتقي قواعدها في نصف دائرة الهلال في ركن من الأركان وتتجه رؤؤسها الى خمسة اتجاهات، وتتصل برؤوس المثلثات خطوط تمتد حتى نهاية الصورة، وكأنها أشعة صادرة عن مصدر ضوئي هو نصف الدائرة الواقع في ركن الخريطة. ولعل الهلال والمثلثات الخمسة أضيفت بعد الرسم الأصلي للخريطة من قبل شخص مجهول لأن خطوطها أكثر وضوحا من غيرها.
عدت بسرعة الى المكتبة العامة لأبحث عن نسخة ثانية للكتاب لعلي أجد فيها اجابة عن تساؤلاتي. وجدت المكتبة مفتوحة فذهبت الى الرف الذي التقط منه أمين المكتبة الكتاب فوجدت نسخة أخرى من الكتاب. فتحت الكتاب واتجهت مباشرة الى الصفحة التي بها الخريطة. وتفاجأت بأن الخريطة تخلو تماما من الشكل الهلالي والمثلثات الخمسة. اذن فالجوامع المتشابهة التي يحويها الكتاب تخلو قواعدها من ذلك. الشكل الهلالي والمثلثات الخمسة توجد فقط في جامع آخر غير الجوامع الموجودة صورها في كتاب الجوامع الايطالي. جامع الملك باجدابيا لا يشبه الجوامع المتشابهة الموجودة صورها بالكتاب، ويبدو أن شخصا ما أضاف شكل الهلال والمثلثات الخمسة للخريطة ليوضح أشياء موجودة في جامع الملك فقط ولا يوجد في غيره من الجوامع.
هذا يعني أنني قد أكون نتيجة للظلام الدامس تحت جامع الملك، لم أستطع رؤية الشكل الهلالي والمثلثات الخمسة. يجب أن أذهب للجامع وأدخل الغرفة الزجاجية مرة أخرى لمعرفة ما يوجد تحتها من أشياء لم أرها المرة السابقة.
وجدت رجل يصلي بالجامع فانتظرت حتى غادر الرجل المكان، واتجهت الى غرفة الملك الزجاجية على يسار المنبر. دفعت نافذة الغرفة بيدي وألقيت بنفسي داخل الغرفة، واتجهت مباشرة الى اللوح الخشبي في وسط الغرفة وسحبت الحبل المربوط بمنتصف اللوح. أخرجت مصباح بطارية صغير من جيبي وسلطت ضوءه على الفتحة المؤدية إلى النفق، قلم أجد الشكل الهلالي والمثلثات الخمسة، بل نفق واحد فقط... ليس معقولا أن يوجد نفق واحد، لابد من نفق آخر على الأقل يؤدي إلى قصر الملك. ثمة خطأ ما.
عدت إلى البيت ونظرت إلى الخريطة من جديد. الشكل الهلالي في الركن تنطلق منه رؤوس مثلثات خمس تمتد الى نهاية الورقة. الهلال يقع في ركن الجامع وليس في وسطه حيث يوجد اللوح الخشبي. وتذكرت سجادة الصلاة الموجودة في ركن الغرفة الزجاجية. هل تغطي السجادة الهلال والمثلثات الخمسة؟ ربما.
في طريق عودتي للبيت لاحظت مرور بعض طوابير تلاميذ المدارس بميدان الجزائر حيث مقهى الجزائر ومحطة وقود بيده ومقهي ساطي، في طريقها الى قصر الملك. ولم أجد صعوبة في التعرف على طابور مدرستي رغم أنني انتقلت من مدرسة الهدى الصغيرة (القريبة من مقهى شرمدو) الى مدرسة الهدى الكبيرة (بالقرب من الجنسية واسترحة مارينا المشهورة بوجبة الشرمولة وخبزة التنور) هذا العام ولا أعرف كثيرا من طلبة مدرستي الجديدة. دخلت طابور مدرستي المتجه الى قصر الملك، وهتفت مع الهاتفين : عاشت ليبيا عاشت ليبيا ـ عاش الملك عاش الملك وولي عهده المحبوب.
الى اللقاء في الحلقة الثانية من "حكايات جامع الملك اجدابيا".
ابراهيم اغنيوه
* راجع الحلقات السابقة بـ (أرشيف الكاتب)