حكايات "جامع الملك" اجدابيا (2)
في طريق عودتي للبيت لاحظت مرور بعض طوابير تلاميذ المدارس بميدان الجزائر حيث مقهى الجزائر ومحطة وقود بيده ومقهي ساطي، في طريقها الى قصر الملك. ولم أجد صعوبة في التعرف على طابور مدرستي رغم أنني انتقلت من مدرسة الهدى الصغيرة (القريبة من مقهى شرمدو) الى مدرسة الهدى الكبيرة (بالقرب من الجنسية واسترحة مارينا المشهورة بوجبة الشرمولة) هذا العام ولا أعرف كثيرا من طلبة مدرستي الجديدة.
دخلت طابور مدرستي المتجه الى قصر الملك، وهتفت مع الهاتفين: عاشت ليبيا. عاشت ليبيا. عاش الملك. عاش الملك وولي عهده المحبوب.
عندما وصلنا مبنى البريد كان بامكاني رؤية مجموعة كبيرة من الفرسان على جيادهم المزخرفة سروجها، وكان بعض الفرسان يرفعون الأعلام، وكانت الجياد تثير الغبار بأرجلها وتزاحم الناس الذين بدأو يتجمعون لاستقبال الملك أمام قصره وراء مبنى البريد، فيضطر كثير من التلاميذ الى الخروج من أمامها وبالتالي الخروج من طوابير مدارسهم، وأدى هذا الى أن يفقد الكثير منهم طابور مدرسته، وكنت أنا أحد هؤلاء.
عندما ابتعد طابور مدرستي وجدت نفسي وسط مجموعة من الرجال، ورغم محاولتي العودة الى طابور مدرستي، الا أنني لم أستطع الوصول الى أي من طوابير المدارس، فجلست على رصيف قريب من جامع الملك ليس بعيدا عن قصر الملك، منتظرا أن ينجلي غبار الجياد عن طوابير المدارس.
اقترب مني رجلان وجلسا على الرصيف بجانبي. وكانا يتحدثان بصوت خافت الا أنني كنت أسمع حيثهما بوضوح بحكم قربي الشديد منهما.
أخرج أحدهما ورقة بها شكلا مرسوما بقلم الرصاص، قائلا للآخر : هذه الرسمة وجدها أحد المدرسين في غرفة المدرسين بمدرسة اجدابيا الداخلية يوم أمس، لا أدري كيف وصلت الى هناك، ولا أعرف ما اذا كانت الوحيدة ام يوجد غيرها. أنظر أنظر، قال الممسك بالورقة لصاحبه ونظر اليّ وكأنه يدعوني الى النظر معهما الى الرسمة.
كان بالورقة مربعان، المربع على اليمين به صورة لشخصية شرسة بياض عينيها ممزوج بحمرة شديدة وشعرها منفوش ومكتوب تحتها "ابليس". والمربع على اليسار به صورة قديمة للملك مكتوب تحتها "ادريس". ويوجد خطان اسودان يمتد احدهما قطريا من الزاوية العليا اليمنى لصورة الملك وينتهي بالزاوية السفلى اليسرى، بينما يمتد الخط الاخر قطريا من الزاوية السفلى اليمنى للصورة وينتهي بالزاوية العليا اليسرى لها.
رغم عدم فهمي لمعنى الشكل المرسوم والصور بالورقة التي يتأملها الرجلان، الا أنني أحسست بأن شطب صورة الملك في الورقة يعني أن هذان الرجلان أو من رسم الصور أو من وجدها في غرفة المدرسين بالمدرسة الداخلية، أو هم جميعا لا يحملون للملك خيرا. لماذا لم تشطب صورة ابليس وتم شطب صورة الملك؟ الملك رجل طيب وبركاته تشمل الناس جميعا، والملك يحب الجميع ويرفع يده الكريمة محييا كل الناس للرد على هتافاتهم، بل أنه يحي حتى أولئك الذين يتفرجون فقط على المشهد دون أن يهتفوا أو يصفقوا.
ما معنى الصورة؟ ومن الشخص الشرّير الذي رسمها؟ حدثت نفسي، وتمنيت لو يسمعني الرجلان ويجيبان.
في المربع الاول صورة "ابليس"، وفي المربع الثاني صورة الملك "ادريس" مشطوباً عليها. رحت أحاول قراءة الصورة، فلم استطع ذلك، وسمعت أحد الرجلين يقول لصاحبه: هذا الرسام يعني ("ابليس" ولا "ادريس"). كيف يمكن لأحد أن يكتب مثل هذا الكلام عن الملك الصالح حفظه الله ورعاه؟ كيف توضع صورة قبيحة مثل هذه في غرفة المدرسين بمدرسة اجدابيا الداخلية؟ هل هي الصورة الوحيدة من نوعها أم أن ثمة صور غيرها ربما أقبح، وضعت في أماكن أخرى، ولم نتمكن من الحصول عليها. يجب أن يعرف الأقندي ذلك. قال أحد الرجلين.
من الواضح أن هذين الرجلين لا يكرهان الملك، وسيخبران "الأفندي" الذي قد يكون رئيسهما ويخبر هو بدوره حرس الملك، وينجو الملك من أي سوء يضمره راسم صورة ابليس واصحابه.
انطلقت هتافات الناس: عاش الملك وولي عهده المحبوب. بينما وقف الرجلان وغادرا المكان.
نظرت حولي الى الناس فشد انتباهي وجه رجل عجوز ذو لحية بيضاء يلبس جردا أبيض قديم يغطي جسده كاملا ما عدا وجهه. الرجل العجوز يشبه الى حد بعيد الملك. كان الرجل العجوز يسير متجها الى جامع الملك.
غادرت الرصيف متتبعا خطوات الرجل، فدخل جامع الملك من باب جانبي قديم لم أعرف الا اليوم أنه صالح للاستعمال.
اسرعت الى الباب الرئيسي للجامع ودخلته. كان بالجامع ناس كثيرون، بعضهم يجلس للاستراحة في انتظار وصول الملك، وبعضهم يصلي. نظرت في اتجاه مكان الباب الذي دخل منه الرجل العجوز فلم أجد اي أثر للباب القديم.
خرجت مسرعا من الجامع واتجهت مباشرة الى الباب القديم الذي دخل منه الرجل الشبيه. دفعت الباب فلم يتحرك، دفعته بقوة فلم يكن لدفعي أي تأثير، فالباب كما يبدو مغلق من الداخل.
طرقت الباب فلم يجب أحد. كررت المحاولة فلم يجب أحد. وعندما استدرت للمغادرة سمعت صوت رجل عجوز وراء الباب يقول: من؟ "صاحب"، قلت. فتح الرجل العجوز الباب، وعندما رآني قال: أدخل يا "صاحب". دخلت وأغلق الرجل العجوز الباب.
نظرت حولي فوجدت أمامي حائطا هو حائط الجامع فقد كنت أسمع وراءه همهمات الناس داخل الجامع، والى اليسار حائط لا أعرف ما وراءه، والى اليمين ممر ضيق، سار فيه الرجل العجوز وسرت وراءه. في نهاية الممر وجدنا بابا دفعه الرجل فوجدت نفسي في سقيفة يفصلها عن ما وراءها الا رداءا واسعا تحركه الريح يمينا وشمالا والى الآمام والخلف حتى ليكاد يلامس وجهي.
عندما فتحت الباب ورأيتك اعتقدت أنك أحد تلامذتي الذي يشبهك الى حد بعيد. قال الرجل فيما دعاني للجلوس على حصير في ركن السقيفة، وخرج من السقيفة الى وسط الحوش.
عاد بعد قليل ومعه كوب لبن أعطاه لي مواصلا حديثه: إسمي عابد، أعيش في هذا الحوش مع زوجتي المريضة. نتعلم ونعلم لوجه الله، لا نريد جزاءا ولا شكورا. هل تحفظ بعض القرآن يا "صاحب"؟
ـ أحفظ جزئي عم وتبارك يا شيخ عابد. قلت مفتخرا.
ـ من الذي حفظك القرآن؟
ـ الفقي عامر العوامي، في جامع سيدي حمد المقرون.
ـ حسنا. قال الشيخ عابد، لقد حفظت، والآن تفهم.
علت الأصوات بالخارج: عاش الملك عاش الملك. عاشت ليبيا عاشت ليبيا... اعتقدت أن الملك وصل، فتململت أريد الخروج لرؤية جلالته، الا ان الاصوات خفتت. لقد خفتت تماما. ولم نعد نسمع أي صوت بالخارج وكأن الناس جميعا غادروا ساحة الجامع وساحة القصر.
ـ يا "صاحب"، قال الشيخ عابد، ماذا تريد أن تعرف اليوم.
ـ عندي سؤال: لماذا تسكن ملاصقا لجامع الملك في هذا الحوش الصغير، ولا تسكن في حوش كبير في الحارة الشرقية أو الحارة الغربية.
ـ أنا لست من هذه المدينة يا صاحب، أنا رحالة أمرّ بالمدن والقرى مرورا، ولقد مرضت زوجتي واضطررت للاقامة هنا حتى تشفى واواصل رحلتي. وخلال اقامتي اتعلم واعلم الصبية.
اقتربت من الشيخ عابد وقلت بصوت خافت: هل كل الناس يحبون الملك؟
ـ نعم ولا... قال الشيخ عابد.
الى اللقاء في الحلقة الثالثة من "حكايات جامع الملك اجدابيا".
ابراهيم اغنيوه
راجع الحلقات بـ (أرشيف الكاتب)