ابراهيم اغنيوه: حكايات 2/10/2015 15:35 ابراهيم اغنيوه: حكايات "جامع الملك" اجدابيا (3)
ابراهيم اغنيوه بحث

حكايات "جامع الملك" اجدابيا (3)

 

اقتربت من الشيخ عابد وقلت بصوت خافت: هل كل الناس يحبون الملك؟

ـ نعم ولا. قال الشيخ عابد. هناك ناس يحبون الملك جدا، وهناك ناس يكرهون الملك جدا، بحسب التوجه السياسي والجهة الجغرافية. وكما تعرف يا "صاحب" نحن ناس اما أن نحب بشدة أو نكره بشده. وعندما يكون ذلك في السياسة والدين قد يؤدي الى كارثة. ونتيجة لمؤثرات دينية وسياسية يحب البعض الملك ويصل الأمر الى حد اعتباره وليا من أولياء الله الصالحين، بينما يكرهه البعض الآخر ويصل الأمر الى حد اهانته واعتباره خائنا لوطنه وتفضيل ابليس الملعون عليه.

علت الأصوات بالخارج: عاش الملك عاش الملك... خرج الشيخ عابد وأسرعت وراءه، فوجدت أحد اخوتي عند الباب.

ـ وينك نبحث عنك طول النهار؟. قال أخي.

اتجهت الى أخي الذي أخذني من يدي متجها الى ساحة قصر الملك، فيم اختفى الشيخ عابد وسط الناس الذين عجت بهم الساحة.

خرج الملك حفظه الله ورعاه من باب صغير بهدوء ووقار ليقف في شرفة صغيره وينظر الى الناس الذين علت هتافاتهم: عاش الملك عاشت ليبيا. رفع الملك يده ببطء شديد ووضعها الى جانب وجهه محييا الناس ورأيت الملك يبتسم لي فازددت حماسا. وكما خرج الى الشرفة بهدوء ووقار دخل الملك من الباب الصغير واختفى داخل قصره. كل الناس يحبون الملك. عاش الملك، حدثت نفسي. أين الذين لا يحبون الملك، لماذا لا أراهم الآن يهتفون ضد الملك في هذه الساحة.

هدأت الضجة، واتجه الفرسان وجيادهم الى الظل، واختفى الغبار، واصبح الجو جميلا جدا في اجدابيا، ولم يغادر الناس الى بيوتهم بعد دخول الملك قصره. بقوا هناك ينتظرون، فقد تردد بين الناس أن الملك سيلقي خطابا قصيرا ويستمع الى بعض الخطب والقصائد ويشاهد عرضا فروسيا، عندما يذهب الى سرادق خارج المدينة، أقيم بالقرب من مشروع كبير له علاقة بتصدير البترول.

عدت وأخي الى بيتنا ووجدت أن أهلي افتقدوني وارسلوا اخوتي الى اماكن عدة للبحث عني، واعتقدوا أنني ضعت في الزحام وفقدت طريقي الى البيت. ووجدت صعوبة كبيرة في اقناعهم بلقائي بالشيخ عابد الذي يشبه الملك. وتندر أحد اخوتي قائلا: ربما قابلت الملك نفسه، لا يوجد شيخ اسمه عابد يسكن في بيت ملاصق لجامع الملك، لأنه لا يوجد بيت ملاصق لجامع الملك.

ووسط اصراري على وجود بيت ملاصق للجامع ووجود شيخ اسمه عابد فيه، أصر اخوتي على أن أريهم بيت الشيخ عابد.

في طريقنا الى جامع الملك، رأينا كثير من الناس يعودون الى بيوتهم فرادى وجماعات بعد تحية الملك لهم. وعندما وصلنا الى جامع الملك أشرت الى باب الجامع الجانبي القديم الذي لا يستعمله أحد وقلت لإخوتي: هذا الباب يؤدي الى حوش الشيخ عابد.

ـ هذا الباب قديم وغير مستعمل. قال أحد اخوتي.

وفيما هو يتجه الى الباب، انفتح الباب وخرج منه الشيخ وزوجته.

ـ "صاحب"، قال الشيخ عابد، وسط ذهول اخوتي.

ـ سأغادر اجدابيا في هذه اللحظة الى الغرب. قال الشيخ عابد. وواصل: سأمرّ بهذه المدينة المباركة في رحلة العودة الى الشرق، انتظر وصول رسائل مني باسمك "صاحب" عند ساعي البريد.

واختفى الشيخ عابد وزوجته وسط دهشة اخوتي، الذين لم ينبس أي منهم ببنت شفة.

بعد انتهاء زيارة الملك، تردد بين الناس أن أحد رجال المباحث قبض على احد المدرسين الذين كانوا ضمن الناس في ساحة قصر الملك، بتهمة اهانة الذات الملكية، لأنه رأى المدرس يشير الى الملك عندما خرج الى شرفة قصره باشارات غير اخلاقية. وأثناء التحقيق مع المدرس وجدوا في جيوبه صورة الملك وابليس مكتوب عليها بخط عريض "ابليس ولا ادريس. عاش الزعيم جمال عبد الناصر". ويقال أن الملك حفظه الله ورعاه أمر بالافراج عن المدرس فور سماعه لقصة حبسه والتحقيق معه.

بعد انتهاء زيارة الملك، اهتميت بدراستي وبالامتحانات، ولم أعد أهتم كثيرا بما يحدث في جامع الملك والنفق الذي تحته، ونسيت تماما الشيخ عابد، الى أن كنت ذات يوم أذاكر في دكاننا المجاور لمحلات المريش والبرداح وعمر جرمانيه، والمقابل لفندق اجدابيا السياحي، وتوقف أمام الدكان ساعي البريد الأسمر على دراجته، وأخرج من رزمة رسائل يحملها في سلة دراجته رسالة أعطاها لي مبتسما: اعطي هذه الرسالة لوالدك، لعلها تخص أحد أصحابه.

وقرأت المكتوب على الرسالة، عنوان دكاننا في اعلى غلاف الرسالة، وتحت العنوان مكتوب بخط كبير (تسلم بيد "صاحب" مع الشكر لساعي البريد).

فرحت كثيرا لأنني استلمت رسالة من ساعي البريد، لم أرغب في فتح الرسالة في الدكان، لأن المشترين سيقطعون علي خيط تمتعي بقراءة الرسالة. لقد أحببت الرسائل والتمتع بقراءتها منذ نشرت اسمي وعنواني في مجلة ليبية للأطفال وكذلك باذاعة "هنا لندن"، واستلمت نتيجة لذلك عشرات بل مئات الرسائل والصور والمجلات من أنحاء كثيرة، وتمتعت بقراءتها والرد على كثير منها أيّما متعة.

وضعت رسالة الشيخ عابد في جيبي وانتظرت الى أن جاء والدي للدكان، وحدثته عن رسالتي، وذهبت بها الى البيت.

في المربوعة أغلقت الباب، وجلست على الأرض، وفتحت الرسالة: 

((بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين

الى صاحب من العبد الفقيرعابد

هذه أول رسالة أبعثها اليك منذ غادرت اجدابيا في طريقي من الشرق الى الغرب. وحتما سأمر باجدابيا في رحلتي القادمة من الغرب الى الشرق. سألتني مرّة عن حب كل الناس للملك من عدمه. حب الناس للملك له علاقة بكون السيد ادريس حفيد مؤسس حركة دينية اصلاحية هي الحركة السنوسية، وهي حركة مسالمة تدعو الى الاعتدال والمحبة وتنبذ التطرف في الدين والكراهية. وفيما وجدت هذه الحركة دعما ومساندة في برقة وفزان، ووجد فيها الناس قيادة محايدة للقبائل فيها، واحبوا السنوسيين من السيد المهدي الى السيد احمد الشريف الى السيد ادريس، وانتشرت زواياها في انحاء كثيرة من شرق وجنوب ليبيا، الا أنها لم تجد نفس الدعم والمساندة في غرب ليبيا، حيث وجد فيها زعماء غرب ليبيا المتصارعون دوما على السلطة والنفوذ، منافسا سياسيا خطيرا لهم، واعتبروا السيد ادريس شخصا سياسيا يستغل مكانته الدينية لأغراض دنيوية والغاية عنده تبرر الوسيلة، فقد تفاوض مع الطليان والانجليز في سبيل الحصول على بعض المكاسب قبل الاستقلال وبعده، وتلقى واسرته مرتبات منهم، وأخذوا عليه مغادرته لليبيا وهجرته الى مصر وتركه للمجاهدين بقيادة عمر المختار يواجهون الطليان وحدهم. بالاضافة الى شعور اهل طرابلس الغرب بان السنوسيين يريدون حكمهم والسيطرة عليهم واستبعاد زعماءهم من حكم وطنهم طرابلس الذي كان يوما أول جمهورية في المنطقة العربية. عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وتحصل السيد ادريس على استقلال برقة وأصبح أميرا على امارة برقة كان شعاره ـ خذ وطالب ـ فقد كان يؤمن بان استقلال ليبيا كلها يحتاج الى وقت وجهد، لا يمكن ان ينجح الا اذا وافق سموه على استقلال برقة أولا، نظرا لتعقيد الامور في غرب ليبيا وجنوبها وكثرة زعماءها واختلافاتهم ـ تم هذا سنة 1949م ـ وبعد ذلك ربنا بسنين يستطيع المطالبة باستقلال ليبيا ـ تم هذا سنة 1951م ـ. ومما يساعد على تقديرنا لكون الأمير ادريس رجلا وطنيا لا يفرق بين ليبي وليبي أو بين برقاوي الأصل وطرابلسي الأصل، أن أول حكومة أسسها السيد ادريس في أمارة برقة المستقلة ـ 28 سبتمبر1949 ـ كانت مكونة من أشخاص ليسوا جميعا برقاويّ الأصل، بل معظمهم من أصول طرابلسية، وكان أعضاؤها كما يلي: 

الدكتور فتحي الكيخيا ــــــ رئيساً للوزراء ووزيراً للعدلية والمعارف والدفاع

سعد الله بن سعود ـــــــــــــــــــــ نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية
محمد بودجاجه ــــــــــــــــــــــــ وزيراً للمالية والتجارة
علي أسعد الجربي ـــــــــــــــــــ وزيراً للأشغال والمواصلات
حسين بو مازق ـــــــــــــــــــــــ وزيراً للزراعة والغابات
خليل القلال ـــــــــــــــــــــــــــــ وزيراً للصحة.

مما يؤكد أيضا أن المادة4  من الدستور البرقاوي ـ الصادر سنة 1949م ـ والتي جاء فيها أنه (لا تمييز بأي شكل بين أهالي برقة بسبب الجنس أو الدين أو اللغة)، تعني أن عبارة "أهالي برقة" تعني سكان برقة جميعا، برقاويّ الأصل أو طرابلسي الأصل أو فزاني الأصل، وليس كما يعتقد البعض أن ولاية برقة كانت لبرقاويّ الأصل فقط، أو أن السيد ادريس كان جهويا لا يحب عرب طرابلس الغرب وعرب فزان.

كذلك حكومات ليبيا بعد الاستقلال من سنة 1951م الى اليوم، كان كل رؤساء وزراءها من اصول طرابلسية او فزانية ولا أحد من هؤلاء كان من أصول برقاوية:

حكومة محمود المنتصر 1951-1954
حكومة محمد الساقزلى 1954
حكومة مصطفى بن حليم 1954ـ1957
حكومة عبد المجيد كعبار  1960-1957
حكومة محمد عثمان الصيد 1963-1960
حكومة محي الدين فكيني 1964-1963

ولكن الحق يقال أن معظم الناس في برقة وفزان يحبون ويحترمون السيد ادريس لأسباب دينية كرجل طيب وتقي وصالح ومبارك أكثر من حب واحترام عرب طرابلس الغرب له، فاغلب اهل برقة واهل فزان دائما يربطون اسم الملك ادريس بـ"سيدي"، فيقولون"سيدي ادريس"، بل يصل الأمر أحيانا الى درجة التقديس، بينما يقول معظم الناس في طرابلس الغرب "ادريس" بدون أي مقدمات، أي أنهم ينظرون الى الملك ادريس حفظه الله ورعاه كرجل سياسي ليس أكثر. ولكن ان يصل الامر الى تمني أن يحكم ليبيا ابليس ولا يحكمها ادريس، فهذا ناتج واضح للصراع على سلطة خاف زعماء طرابلس الغرب أن يفقدوها قبل الاستقلال وبعده، وعندما اكتشفوا ان لا استقلال لليبيا كلها الا تحت زعامة الامير ادريس، قاموا بمبايعته (وكانت اول المبايعات في مدينة اجدابيا، حيث كان السيد ادريس فيها لكونها مركز حكومته آنذاك ـ حكومة اجدابيا ـ). وعندما تحقق استقلال برقة سنة 1949م واعلنت امارة برقة أميرها السيد ادريس، خرجت مظاهرات في انحاء كثيرة من ليبيا تدعو الى عدم الاكتفاء باستقلال برقة، والمطالبة باستقلاق ليبيا كلها (برقة وطرابلس الغرب وفزان) لانه كان ثمة دعوات لابقاء طرابلس الغرب تحت الادارة الايطالية وابقاء فزان تحت الادارة الفرنسية. وكان كثير من زعماء طرابلس الغرب يرغبون في البقاء تحت الادارة الايطالية ـ كانت توجد احزاب فاشستية ايطالية يتزعمها ليبيون في طرابلس الغرب تنادي علنا بابقاء طرابلس الغرب تحت الادارة الايطالية او في احسن الاحوال تحت ادارة الجامعة العربية، وهي رغبة في حقيقتها للحصول فيما بعد على استقلال طرابلس الغرب واحياء مسمى الجمهورية الطرابلسية كدولة منفصلة عن باقي ليبيا مع ارتباط مباشر بايطاليا ـ وقد يفسر هذا بقاء الاف الايطاليين في طرابلس الغرب بعد استقلال ليبيا بينما لم يكن للايطاليين وجود يذكر في برقة بعد الاستقلال ـ، وقد كان احد مطالب الامير ادريس بعد استقلال برقة هو خروج جميع الايطاليين منها. والامر مشابه لذلك في فزان حيث وجدت فرنسا بعض الزعماء الذين كانوا يرغبون في استقلال فزان كدولة منفصلة عن باقي ليبيا مع ارتباط مباشر بفرنسا، وان كان كثير من زعماء فزان يميلون الى امارة السيد ادريس، وقد كان من الممكن أن تنقسم ليبيا الى دولتين، واحدة تضم برقة وفزان، والاخرى طرابلس، لولا بروز الحل البديل، وهو الحل الاتحادي "الفيدرالي" (ثلاث ولايات: برقة وطرابلس الغرب وفزان، تحت اسم واحد هو "المملكة الليبية المتحدة") والذي كان حلا وسطا للابقاء على دولة ليبيا الواحدة وحال دون تقسيم ليبيا (وقد جاء في مقدمة دستور 1951م ما يلي: "نحن ممثلي شعب ليبيا من برقة وطرابلس الغرب وفزّان المجتمعين بمدينة طرابلس فمدينة بنغازي في جمعية وطنية تأسيسية بإرادة الله. بعد الاتفاق وعقد العزم على تأليف اتحاد بيننا تحت تاج الملك محمد ادريس المهدي السنوسي الذي بايعه الشعب الليبي ونادت به هذه الجمعية الوطنية التأسيسية ملكا دستوريا على ليبيا"). وقد تم الغاء النظام الاتحادي "الفيدرالي" سنة 1963م لأسباب محلية ودولية، وتم تعديل دستور1951م سنة 1963م، ليحل اسم "المملكة الليبية" محل اسم "المملكة الليبية المتحدة".

لاشك أنني أطلت عليك يا صاحب. انتظر رسالة أخرى مني اذا بقي في العمر بقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العبد الفقيرعابد))

بعد ان انتهيت من قراءة رسالة الشيخ عابد، شعرت بأنها زادت من تساؤلاتي، بدل أن تجيب على سؤالي الوحيد للشيخ عندما التقيت به في بيته المجاور لجامع الملك باجدابيا، وهو "هل كل الناس يحبون الملك؟".

إلى اللقاء في الحلقة الرابعة من "حكايات جامع الملك اجدابيا".

ابراهيم اغنيوه

* راجع الحلقات السابقة بـ (أرشيف الكاتب)

 

إضغط هنا للتعليق على الموضوع
Reader's Comments
سيدة ليبية
مقالاتك اكثر من رائعة حقا لا مجاملة، لقد جاء الوقت الذي اقرأ لك فيه بعد ان قرأت ما قرأت مما كتبناه إبان الاحتلال القذافي، ولدي فقط ملاحظة وقد نسميها في…...
التكملة
احميدي الكاسح
أحييك يا صاحب ،قلم تقل إلا ما ببطون الكتب وما حدث وأصل المسألة وفقا للتاريخ الغير مزور والخالي من النفط والغاز والماء والفكر المؤدلج لما يتجاوز الوطن .... بقي القول…...
التكملة