الكتابة على الجدران المتصدعة (4)
قوينة البداية والنهاية
1- قورينة، في عهد الامبراطور الهزيل فلافيوس أركاديوس (383-408م.) إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية التي يتبعها البنتابوليس القوريني الذي تحولت عاصمته إلى طلميثة. وها هو أندرينوكس البرنيقي البغيض المعين واليا على البنتابولس من قبل الدولة البيزنطية، وهو النموذج للولاة الذين تبعث بهم الدولة... (فاسدا مرتشيا وضيع الأصل، لا يتورع في سبيل الحصول على مبتغاه من ارتكاب أبشع المظالم)... "وسلك في سبيل تحصيل الضرائب مسالك وحشية"... منها!!ّ!.. ونترك لسونوسيوس وصف مسالك هذا الأندرينوكس الطاغية البذيء... فنسمعه يقول: "... الوالي علينا هو أندرونيكوس من برنيكوس، وهو مجرم كريه النفس واللسان.. لقد جلل البنتابولس بالحداد،... واخترع آلات للتعذيب تتناول الأصابع والأقدام،... وأقام كل أجهزة التعذيب.. التي لم يقصد بها إلى المذنبين،... لأن للناس الحرية في ارتكاب كل الجرائم،.. بل إلى أولئك الذين عليهم أن يدفعوا ضرائب من أموالهم.. أو من عليهم نقود لأي سبب من الأسباب".
2- وفي ختام رسالته الموجهة إالى أحد معارفه من المقربين للسلطة في القسطنينية يقول سونسيوس ".. لكن أقسى ما يؤلم نفسي، ويجعلني أيأس من الحياة هو أنني وقد تعودت دائما أن تجاب دعواتي، فإنني أشعر الآن بأنني أتوجه إلى الله عبثا، لقد دخل بيتي الحداد، وإنني أقيم في وطن خرب، والكل يأتون إلي للبكاء والنواح. وأندرونيكس يجعل شقائي يجاوز كل حد، ولا يدع لي لحظة واحدة للراحة، ولما كنت لا أستطيع أن أساعد الذين يلجأون إلي، فإنني مقدر علي أن أسمعهم يلومونني على عجزي.".[1]
3- قورينة مطلع القرن الخامس الميلادي، وقد تعددت النكبات، وتتابعت وألحقت بقورينا والمدن التابعة لها أبلغ الأضرار، وحل بعمرانها الخراب. تراجع من تبقى من سكانها إلى المزارع جنوب المدينة، فأقاموا لهم حياة مشتركة، وشكلوا لهم مجتمعا ريفيا مترابطا يشترك الجميع في القيام بشئون الحياة فيه ويتعاون الجميع على توفير متطلبات معيشتهم.[2]
4- وتتوالى النكبات على مدن قورينة وتتعدد مصادرها، وهذه قبائل البربر من الأمازيغ[3] والماكيتاي والأوستريانر، تأخذ في توجيه غاراتها ضد سكان المدن القورينية أو المتبقي من السكان في تلك المدن، يشجعها على تكرار تلك الغزوات ضعف المقاومة أو افتقادها من قبل الجند الرومان المكلفون بالحماية، وهذ ا سونوسيوس في رسالة وجهها إلى أخيه يصرخ قائلا: "أليس من المحزن ألاّ يكون لدينا غير أخبار أليمة نتبادلها في رسائلنا، احتل الأعداء باطيا، وهاجموا أفروسوس، وأحرقوا المحاصيل، وخربوا الحقول، وسبوا النسوة، ولا نجاة لجنس النساء، وكانوا في الماضي يقتادون الأولاد أحياء، أما الآن فعددهم قليل بحيث لا يجدون من يحرس كل هؤلاء الأسرى، وما تحتاجه متطلبات الحرب، لا أحد منا يثور بل نقبع في بيوتنا دون أن نحرك ساكنا".
5- وفي رسالة يبعث بها إلى معلمته هوباتيا يبدأها بالحديث عن الفلسفة والثقافة في أثينا التي كان قد قام بزيارتها مقارنة بما هو قائم في الإسكندرية.. يقول: ".. إن أثينا لم يعد لها من العظمة غير اسمها اللامع فيما مضى.. وكما لا يبقى من الأضحية غير الجلد، لِـيُـذكـر العيون بكائن كان حيا من قبل ... وفي أيامنا هذه في مصر وحدها تنمو البذور الخصبة للفلسفة.. وذلك بفضل هوباتيا، لقد كانت أثينا في الماضي مقام الحكماء أما اليوم فلا تزهى إلاّ بصانعي العسل..".
6- ثم يخبر سونوسيوس صديقته ومعلمته، الفيلسوفة، هوباتيا الإغريقية المصرية بما آل إليه حال قورينة وما يتعرض له سكانها من القتل وما حل بهم من الكوارث والدمار فيستهلها بالقول: "في العالم الآخر ينسى الناس كل شيء ولكني أنا سأذكرك فيه... عزيزتي هوباتيا. إني أعيش وسط مصائب وطني، وكوارثه تملؤني بالأحزان، وفي كل يوم أشهد أسلحة الأعداء، وأشهد الناس يذبحون كقطعان الماشية، وأتنسم هواءا فاسدا منبعثا من الجثث، وأتوقع لنفسي أن ألقى نفس المصير الذي يلقاه الكثيرون، إذ كيف يكون عندي أمل، بينما السماء تكدرها أسراب من الطيور الجارحةالتي تنتظر فراسها؟ ومع ذلك فلا يهم،... إني لن أترك هذا المكاتن ألست ليبيـا؟... هنا ولدت وهنا أشهد قبور أجدادي النبلاء.. ومن أجلك فقط قد أغادر وطني وإذا غادرته فلن يكون ذلك إلاّ من أجل أن أكون إلى جوارك" (من قورينا سنة 401).
7- ولم يغادر سونيسوس البنتابولس مفضلا مواجهة المصير على أيدي (الغزاة)... كان أسقفا لطلميثة العاصمة عندما حوصرت طلميثة من قبل القبائل الليبية سنة م411،... وهذا آخرما كتبه قد حاء في في رسالة مطولة: "... إن الله لا يلقي على البنتابولس غير نظرات غاضبة، ونحن نعاني عقوبات قاسية، إن غزو الجراد قد امتحننا محنة شديدة، لكنها كانت أخف من الحريق الذي دمر ثلاث نواح من بلادنا قبل مجيىء الأعداء، فمتى تنتهي مصائبنا،...".
8- ويحدد موقفه بعد تردد وطرح خيارات، ثم يخلص إالى القرار: "... لكن هذه هي الساعة الكبرى التي ينبغي فيها على القساوسة - في مواجهة هذه الأخطار الداهمة - أن يهرعوا إلى معبد الله، أما عن نفسي، فسأصمد في مكاني في الكنيسة وأضع أمامي الأواني المقدسة التي تحتوي على ماء التطهير، وسأعانق الأعمدة التي تسند المنضدة المقدسة، وسأربط بها نفسي حيا، وسأسقط عندها ميتا.. إني خادم الرب، وربما كان علي أن أضحي له بحياتي، ولا بد أن الله سيلقي نظرة رحمة على المذبح الطاهر المروي بدم الكاهن".
إنها رحلة زمن استغرقت ما يزيد عن الألف عام.. كان للوجود الإغريقي في ليبيا حضور مميز مشارك في الاتساع الحضاري الثقافي والاستيطاني والنضج السياسي الذي استغرق عقودا طويلة لا تزال مخلفاته القواعد التي تستعاد لتتبع تاريخ المعرفة الإنسانية في مختلف مجالاتها... اختتمت بما آل إليه ذلك الوجود على أيدي القبائل الليبية ذات االشأن.
سالم قنيبر
بنغازي 9 فبراير 2016
ـــــــــــــ
المراجع
[1] الرسالة رقم 124 من مجموع رسائل سونسيوس موجهة إلى صديق له في القسطنينية ذي نفوذ يدعى أنسطاس، كان يتولى تربية أبناء المبراطورز. المصدر السابق 313-314.
[2] الأهمال وعدم الرعاية والضرائب الفاحشة التي كان يفرضها الأباطرة الرومان على قورينة والمدن التابعة لها منذ أن أورثها بطليموس أبيون واليها البطلمي سنة 96 ق.م. لدولة الرومان. ألحق بالإقليم التخلف والبوار. وكانت ثورةاليهود (أندريا لوقا 115-117م.) قد ألحقت بالغ الأضرار بالمدن القورينائية قورينة - طلميثة - توكرة ويوسبيريدس. أنظر المزيد من التفاصيل عن هذه الثورة وما سببته من الأضرار تجاه السكان عند قيامها في دراسات في تاريخ ليبيا القديم للدكتور مصطفى عبد العليم ص171-204 والتاريخ الليبي القديم منذ أقدم العصور حتى الفتح الإسلامي - د. عبد اللطيف البرغوثي ص 407-423).
[3] يطلق إسم الأمازيغ في اليونانية على مجموعة قبائل البربر الذين يعيشون في شمال إفريقية من المحيط الأطلسي وموريتانيا غربا حتى الحدود المصرية شرقا. ويمثلون الجنس الليبي، ويتقصيىا لما ذكرها لدكتور بدوي عن وجود الأمازيغ في الشمال الإفريقي في المصادر المختلفة فيقول: ".. هذا شعب ليبي تجعل أقدم المصادر مواطنه الأصلية في جنوب تونس.. ثم نجده بعد ذلك بالقرب من لبدة وبعد ذلك في بلاد السرت، ثم في البنطابولس، وينتشر وجودهم في صحراء ليبيا، وفي القرن الخامس انتشروا في مختلف الواحات في وادي النطرون وواحة البهنسا، وجنوب الفيوم، والواحات الكبرى، وكان تراجعهم عن المناطق المتقدمة على يد أرستوماخـــوس 580م. عندما بلغت جموعهم وادي النيل، واسم مازغ يعني الحر النبيل وهو اسم ليبي قديم كثير الاستعمال للدلالة على الأفراد أو على القبال. سونوسيوس القورينائي، ص 193- 195.
[4] المصدر السابق ص 194.