شُكْري السنكي: سُليْمان منينة يتحدث عَن أحمَد رامي 12/4/2016 12:50 شُكْري السنكي: سُليْمان منينة يتحدث عَن أحمَد رامي
الصادق شكري بحث

حكايّات مِن الزمن الجميل

سُليْمان منينة يتحدث عَن أحمَد رامي
 


بقلم: شُكْري السنكي

 المُقدِّمَة

أتناول فِي هذه المقالة شخصيّة أثرت الحيَاة الثقافيّة والفنيّة فِي مِصْر والوطن العربي بالعديد مِن الأعمال الخالدة.. وشاعر كانت أشعاره الغنائيّة مميزة عَن غيرها حيث طوّع الصور والمعاني الشعريّة العاليّة للكلمة واللهجة العاميّة، ونقل الكلمة المغناة مِن مكان إِلى آخر مفعم بالألفاظ السهلة والمعاني الجميلة والمشاعر الرومانسيّة والأحاسيس الرَّاقيّة.. إنّه أحمَد رامي (1892م - 5 يونيه/ حزيران 1981م) عملاق الأغنيّة العربيّة أو شاعر الرومانسيّة كمَا يحب أن يسميه البعض أو شاعر الشباب اللقب الّذِي استمر معه حتِّى بعْد بلوغه سن الثمانين. ويبدو أن شعر رامي كان نابضاً بروح الشّباب وقلبه أيْضاً، ولعل فِي القصّة التي رواها سليْمان منينة دليل واضح على ذلك فقد روى أن رامي سُئل وهُو فِي الستينيات: كم عمرك ؟، فأجاب: ثلاثين مرتين.

كتب أحمَد رامي الشعر باللغة الفصحى، وعُرف بترجمته لرباعيات الخيام والشعر الغنائي الّذِي تغنت به سيدة الغناء العربي أم كلثوم، بِالإضافةِ إِلى كتابة عدة مواويل حسبما أكد الفنّان والمُوسيقار الرَّاحل سيد مكاوي (1926م - 21 أبريل/ نيسان 1997م) فِي بعض حواراته الصحفيّة. وأمتلك صوتاً جميلاً ولكنه لم يفكر يوماً فِي احتراف الغناء، وشكلت أشعاره نصف مَا غنّت أم كلثوم مِن أغاني، وحتَّى النّصف الأخر مِن أغانيها كانت تعرضها عليه قبل أن تقبلها وكان هُو يغير منها أحياناَ كلمة أو اثنين. توهَّـجت أشعاره مع عذوبة صوت أم كلثوم وروعة أدائها، وتوقف عَن كتابة الشعر نهائياً بعْد وفاتها مباشرة فِي ٣ فبراير/ شبّاط 1975م، وظلّ على موقفه إِلى أن فارق الحيَاة فِي الخامس مِن يونيه/ حزيران 1981م.

أحدث أحمَد رامي تطوراً فِي الأغنيةِ وصار مدرسة امتدت تأثيراتها إِلى المُلحن والمطرب وقبلهما المؤلفون المحدثون وهذا مَا أكده الشّاعر صالح جودت (1912م - 1976م) بقوله: ".. ومهما يكن مِن أمر, فإنَّ رامي فِي نزوله مِن قمة الشعر إِلى سهل الأغنيّة الدارجة, لم يهبط عبثاً, وإنّما حمل رسالة أدبيّة وقوميّة ضخمة، هي رسالة الوثوب بالأغنيّةِ الدارجة مِن السفوح إِلى القُمم، فِي الكلمة والمعنى معاً، واستطاع أن يطوّع الصور والمعاني الشعريّة العاليّة للكلمة العاميّة, وأن يرقق عواطف العامّة بالشجي والأنين والذّكريّات, وغيرها مِن الكلمات الّتي تخلق الصور. والّتي لم تعهدها الأغنيّة الدارجة مِن قبل. حتَّى صارت أغنيّة رامي مميزة على كلِّ أغنيّة غيرها بشيء جديد, هُو قربها إِلى الشعر, وحتَّى أصبح رامي زعيم مدرسة فِي الغناء, لم يتأثر بها المؤلفون المحدثون وحدهم, وإنّما امتد تأثيرها إِلى روح الملحن وحنجرة المغنى أيْضاً..". وصف الأستاذ الهراوي دواوينه بخارطة الطريق فِي صفحة واحدة أو كمَا قال: ".. نرى أن ديوان أحمَد رامي أشبه بخريطةٍ جغرافيا تمثل الدنيا الواسعة على صفحة محدودة..".

سجل سُليْمان مُصْطفى منينة بعض الذّكريات الّتي جمعته بأحمَد رامي ونشرها كخواطر قصيرة فِي صفحته فِي الفيسبوك. وقد تولدت بين سُليْمان ورامي صداقة قويّة على الرَّغم مِن فارق السن بينهما حيث كان عمر الأوَّل وقتما تعرف عليه اثنين وعشرين عاماً، والثّاني قد تجاوز السبعين مِن عمره. أقام سُليْمان منينة فِي مِصْر مِن سنة 1966م إِلى 1970م حيث درس بالجامعة الأمريكيّة فِي القاهرة، وقد تعرف أثناء فترة إقامته فِي مِصْر على بعض القامات المصريّة ويأتي أحمَد رامي فِي مقدمتها والّذِي لم ينقطع تواصله معه حتَّى بعْد مغادرته إِلى أرض الوطن ولكنّ انقطع التواصل بينهما للأسف بعْد ترحيل معمّر القذّافي لأكثر مِن ربع مليون مصري كانوا يعملون فِي ليبَيا وتوتر العلاقات الدّبلوماسيّة بين البلدين ثمّ الدّخول فِي (حرب الأربعة أيّام) مِن 21 إِلى 24 يوليو/ تموز 1977م، وكان سُليْمان منينة آخر مرَّة يرى فيها رامي العام 1976م وقد توفي رامي فِي صيف 1981م.  

كان أحمَد رامي يعتبر سُليْمان منينة كأبنه ويزوره فِي بيته ليطمئن على دراسته وأحواله بشكل عامّ، وذلك فِي بيت سيدة إيطاليّة كانت تشرف عليه وتديره، ويسكنه عدد مِن  طلبة الجامعة، وكائن فِي شارع طلعت حرب أمام سينما راديو. وكان سُليْمان يزور رامي فِي بيته، وأحياناً يذهب إِلى مجلسه الّذِي كان يعقد صباح كلَّ يوم أحد فِي شرفة فندق سميراميس القديم المطلة على النيل (الانتركونتيننتال حالياً)، ويضم أساتذة كبّار يأتي فِي مقدمتهم: توفيق الحكيم وصَالح جودت ويُوسف وهبي وحسين فوزى وإبراهيم الورداني.. وآخرين. وكان سُليْمان منينة أحد المدعوين لحضور حفل زفاف المهندسة ألهام أبنة أحمَد رامي وذلك يوم 21 مايو/ أيّار  1967م. وكان بصحبة أحمَد رامي حينما زار طرابلس العاصمة الِلّيبيّة بدعوة رسميّة مِن هيئة السياحة عَن طريق الأستاذ عبدالحميد بوسن مديرها وقتئذ، وكان ذلك فِي يوليو/ تموز 1969م.

وَأَخِيْراً، ليس الهدف مِن هذه المقالة تبيان كلّ شيء أو الإحاطة بشخصيّة أحمَد رامي مِن كافة جوانبها، فلا هذا مَا قصده سُليْمان منينة ولا الّذِي قصدته أو أقصده أنا. وسوف أحاول إيفاء أو اِسْتِيفاء المَوْضوع حقه أو جزء منه على أقل تقدير، وأعرض بعض الحكايات والمواقف والجوانب الإنسانيّة والطرائف الّتي رواها سُليْمان منينة وعرفها عَن أحمَد رامي والّتي رُبّما لم تتح لغيره معرفتها.

• أحمَد رامي.. مَنْ هُو؟

أحمَد رامي شاعر متألق لامع، صاحب شهرة واسعة نظراً لارتباط اسمه بأم كلثوم الّتي غنّت له عشرات الأشعار. لّقب بشاعر الشباب، وتنوعت أعماله مَا بين الشعر والأدب والترجمة. وهُو - وكمَا قال الأستاذ فايز فرج- إلى جانب ذلك: ".. باحث طويل الأناة، دؤوب، محقق فِي قضايا الأدب والفكر والتاريخ، صاحب قاموس مِن خمسة أجزاء..".

غنّى مِن أشعاره قطبا الأغنيّة المصريّة الكبيران.. أم كلثوم (1898م - 3 فبراير/ شبّاط 1975م) ومحَمّد عبْدالوهاب (1902م - 4 مايو/ أيّار 1991م). وحققت أشعاره الغنائيّة شهرة كبيرة واسعة والّتي كان فيها شيء مِن اللهجة العاميّة أو مَا يمكن وصفه بـ(الشعر العامي)، بينما لم تنل أعماله الأخرى الشهرة نفسها بالرَّغم مِن أهميتها كالأدب والترجمة والشعر باللغة العربيّة الفصحى. وتُعد أشعاره الغنائيّة الأكثر شهرة فِي تاريخ الفنّ العربي، والرَّصيد الأهم للأغنيّة العربيّة، ونقلة نوعيّة فِي الكلمة المغناة. وَفِي هذا الصَّدِد، قال الشّاعر فاروق جويدة: ".. يُعد أحمَد رامي أعظم جواهرجي فِي تاريخ الأغنيّة. اجتمع مع الثلاثي الخطير أم كلثوم وعبْدالوهاب والسنباطي وكانت النتيجة ثورة فِي الأغنيّة العربيّة كلاماً وأداءً ولحناً. إنِّ تاريخ الغناء العربي مدين لأحمَد رامي بالكثيرِ مِن أمجاده ورُبّما يأتي زمان يضع الأشياء فِي مكانها ويعيد تقييم الأدوار والأشخاص والرموز ويومها سوف يجلس أحمَد رامي بكلِّ الكبرياء على قمة الأغنيّة العربيّة كأكبر فرسانها الأصلاء..".

أطلق عليه صاحب جريدة: (الشباب) مع بدأ نشره لأشعاره فِي الجريدة المذكورة، لقب (شاعر الشّباب)، حيث قدّمه لجمهور القرَّاء بالآتي: (جاءنا مِن شاعر الشّباب أحمَد رامي). ولد فِي حي السيدة زينب بالقاهرة، فِي 19 أغسطس/ أب  1892م، وتلقى تعليمه فِي مِصْر وتخرج مِن مدرسة المعلمين العام 1914م، ودرس نظم الوثائق وعلم المكتبات واللغات الشرقيّة فِي جامعة السربون الباريسيّة رفيعة المستوى. قضى جزءاً مِن طفولته فِي اليونان، وترعرع فِي القاهرة، ودرس فِي باريس اللغة الفرنسيّة ثمّ اللغة الفارسيّة فِي معهد اللغات الشرقية، وساعده ذلك  فِي ترجمة "رباعيات عُمر الخيام". كان يتكلم خمس لغات: العربيّة والإنجليزيّة والفارسيّة والفرنسيّة بالإضافة إِلى شيء من اللغة اليونانيّة. عمل بعْد تخرجه مِن باريس أميناً لمكتبة دار الكتب المِصْريّة، وبعْد فترة مِن انضمام مِصْر لعصبة الأمم فِي 26 مايو/ أيّار 1973، عمل أميناً لمكتبة عصبة الأمم، ثمّ عمل فِي الإذاعة الِمصْريّة ولمدة ثلاث سنوات حيث عُين بعدها نائباً لرئيس دار الكتب المِصْريّة.

ورد عَن أشعاره وترجماته وأعماله الأدبيّة والفنيّة، فِي موقع: (موهوبون)، مَا يلي:..".. أصدر رامي أوَّل دواوينه العام 1918م، وكان ديوانه مختلفًا تماماً عَن الأسلوب الشعري السّائد في ذلك الوقت والّذِي سيطر عليه كلِّ مِن المدرستين الشعريتين الحديثة والقديمة، وأعقب ديوانه الأوَّل بديوانيين آخرين فِي عام 1925م، وعلى الرَّغم مِن أن شعره قد بدأ بالفصحى إلاّ أنه أنتقل للعاميّة بعْد ذلك، ولكنها كانت عاميّة راقيّة استطاع مِن خلالها إبداع صور راقية لم تعهدها العاميّة المِصْريّة قبله. ويُعد ديوانه: (ديوان رامي) مِن أهمّ أعماله، وهُو مِن أربعة أجزاء. كتب مجموعة ضخمة مِن الأشعار تغنت بها الفنّانة أم كلثوم، والّتي يصل عددها إِلي مَا يقرب مِن مائتي أغنيّة، منها: (جددت حبك ليه)، (رق الحبيب)، (سهران لوحدي)، (هجرتك)... وغيرها الكثير. وشارك في ثلاثين فيلماً سينمائياً إمّا بتأليف الأغاني أو كتابة السيناريو والحوار، وَمِن أهمّ هذه الأفلام: (نشيد الأمل)، (الوردة البيضاء)، (دموع الحبّ)، (يحيا الحبّ)، الّتي قام ببطولتها مُوسيقار الأجيال محَمّد عبْدالوهاب، وأفلام أخرى: (عايدة)، (دنانير)، (وداد)، ولعبت بطولتها كوكب الشّرق أم كلثوم، كما كتب للمسرح: (غرام الشعراء) وهي مسرحيّة مِن فصل واحد إمّا فِي مجال الترجمة فقد ترجم مسرحيّة (سميراميس)، وكتاب: (فِي سبيل التّاج) عَن فرانسوا كوبيه، كمَا ترجم (شارلوت كورداي)، (ليوتسار)، (رباعيات الخيام)..".

اُختير أحمَد رامي عضواً باللّجنة الدّائمة لجمعيّة الملحنين والمؤلفين فِي باريس، واُختير أيْضاُ فِي عضويّة لجنتي: الشّعر والفنون الشعبيّة بالمجلسِ الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة. نال جائرة الدولة التقديريّة سنة 1967م، وحصل على وسام الفنون والعلوم، ووسام الكفاءة الفكريّة مِن الطبقة الممتازة مِن الملك الحسن مَلِك المغرب، ووسام الأرز اللبناني، وعلى درجة الدكتوراه الفخريّة فِي الفنون.

أنتقل إِلى رحمة الله فِي الخامس مِن يونيه/ حزيران لعام 1981م، وقد حضر جنازته العديد مِن الشخصيّات الرَّسميّة والعامّة وعدد مِن محبيه، ونظم العديد مِن أبرز معاصريه مِن الشّعراء قصائد الرثاء لأجله. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، فقد كان شاعراً فحلاً وشخصيّةً أدبيّةً عظيمةً قلما يجود الزمان بمثلها.

• كيف تعرف سُليْمان على أحمَد رامي

كان سُليْمان منينة معجباً بأحمَد رامي ومَا يكتبه مِن أشعار لأم كلثوم، ويتمنى أن يلتقيه ويتعرف عليه. وأثناء دراسته بالقاهرة، كان يتردد على عائلة عبْدالشافي القشاشي صاحب مجلة (الفنّ)، وفِي إحدى زياراته لتلك العائلة تصادف وجود الممثلة المعروفة زوزو الحكيم (1912م - 18 مايو/ أيّار 2003م) الّتي عملت مع الفرقة القوميّة سنوات طوال، وبعدما دار الحديث حول شعر حافظ إبراهيم وأحمَد شوقي وإبراهيم ناجي وأحمَد رامي، قال سُليْمان للسيدة زوزو: أنا أتمنى أن أرى أحمَد رامي وأتعرف عليه. ويّذكر أن الفنّانة زوزو كانت لها علاقة بالشعر والشعراء ويروى أن الشّاعر الكبير إبراهيم ناجي (1898م-1953م) صاحب قصيدة (الاطلال) الرَّائعة الّتي تغنت بها أم كلثوم، قد أحبها وكتب فيها قصيدته المذكورة. قالت الفنّانة زوزو طلبك مجاب يا سُليْمان فأحمَد رامي حبيبنا، وأنتم مدعوّون جميعاً يوم الخميس الموافق 20 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1966م للعشاء فِي بيتي وسوف يكون رامي حاضراً. وَفِي تلك الليلة، كان رامي حاضراً كمَا وعدت الفنّانة زوزو، وقد دار حديث طويل بينه وبين سُليْمان فتولد على إثره صداقة قويّة بينهما بالرَّغم مِن فارق السنّ الكبير بين الاثنين.

ومنذ تلك الليلة، أصبح سُليْمان صديقاً لرامي، يزور رامي فِي بيته أو يأتيه هُو فِي مقر سكنه للاطمئنان عليه، وأحياناً يمر سُليْمان عليه فِي البيت فيأخذه إِلى مقهى ميرلاند أو أيَّ مكان آخر. وكان يسهر معه كلّ يوم خميس إّما فِي حفلة أم كلثوم أو فِي منزل الشّاعر صَالح جودت أو فِي أحد المقاهي.

• سُليْمان يروي ذكرياته مع أحمَد رامي

سُليْمان منينة يعود إِلى ذكريّات وحكايات لأشخاص مِن الزّمن الجميل.. يروي مَا عرفه وأَشْيَاءَ أخرى لم يَسْبِقْ ذكرها من قبل أو لم تقال على النحو الّذِي ذكره. نعيد نشر حكايات سُليْمان عَن رامي كمَا رواها هُو بنفسه نظراً لأهميتها مِن الناحيّة التوثيقيّة، وأهميّة الأشخاص الّذِين تحدث عنهم ومَا تركته حقبتهم الزمنيّة على الوطن العربي مِن آثار.

- الحكاية الأولى:

قصيدة الأطلال.. ذلك العمل الرَّائع كلاماً ولحناً وأداءً، والّذِى لازال يطربنا على مدى قرابة نصف قرن.. وبحكم معاصرتي لفترة إنتاج ذلك العمل ومعرفتي لبعض مَنْ كان لهم علاقة به وأولهم المرحوم الأستاذ أحمَد رامي، وقد عرفت بعض التفاصيل، رأيت أن أطلعكم عليها فرُبّما يكون فيها شيئاَ ذا قيمة تاريخيّة أو مفيداً.

وَمٍن المعلوم، أن مُؤلف الأطلال هُو الدّكتور إبراهيم ناجي، الّذِي كان طبيباً للنساء والولادة بِالإضافةِ إِلى إنّه كان مِن كبّار أدباء عصره. يقال إنّه كان ذو إنسانيّة عالية، ولا يأخذ رسوماً مِن النساء الفقيرات بل كان يفرغ كلِّ مَا فِي جيبه مِن نقود ويمنحه هدية لمولود الأسرة الفقيرة.

وحينما قررت أم كلثوم أن تغني شيئاً مِن شعر إبراهيم ناجي، عهدت إِلى رامي مهمة أن يختار لها قصيدة مِن ديوانه، فاختار (الأطلال)، ثمّ أختار هُو وأم كلثوم سوياً أبياتاً منها. ويُذكر أن رامي كان قد أضاف إليها مقطع: (هل رأى الحبّ سكارى) مِن قصيدة أخرى لإبراهيم ناجي، وليس مِن قصيدة الأطلال. وقد تمّ أيْضاً تغيير المطلع فِي البدايّة مِن: (يا فؤادي رحم الله الهوى) إِلى (يا فؤادي أين أيّام الهوى)، وقد كان لأم كلثوم تعليق جميل على ذلك حيث قالت: لما نبتدئ برحم الله.. النَّاس يفتكروا أننا داخلين مأتم !!. لّحن القصيدة المُلحن المُوسيقار العبقري رياض السنباطي، وسجلت وصدرت فِي اسطوانة، وكان عازف المقدمة على العود الفنّان محَمّد القصبجي. وقبل حفل قصيدة الأطلال بأسبوعين، تُوفي القصبجي فتغيرت المقدمة إِلى عزف قانون بدلاً مِن العود كذلك تغير المطلع إِلى: (يا فؤادي لا تسل أين الهوى)، وممّا يُذكر أيْضاً إنَّ الأطلال رباعية أو رباعيات ولكنّ قد تمّ حذف بعض الأبيات لأسباب منها البيت الرَّابع فِي المقطع الأوَّل الّذِي يقول: (وبساطاً من ندامى حلم... هم تواروا أبداً وهُو انطوى)، والسبب إنَّ هذا البيت فيه نوع مِن التشاؤم.. كذلك رباعية (أعطني حريتي أطلق  يديّ... إنّني أعطيت ما استبقيت شيئا)، فالقافيّة هُنا كانت ساكنة، والتلحين كان فيه مد ولذا تغيرت إِلى (أعطني حريتي أطلق يديا)، وقد حذف البيت الأخير (الرَّابع) رغم حلاوته حيث إنّه مجرور ولا يجوز لغوياً مدّه.. والبيت هُو: (ها أنا جفت دموعي فاعف عنها ... إنّها قبلك لم تبذل لحي).  

وَبعْد خروج هذا العمل فِي بدايّة سنة 1966م، قامت معركة إعلاميّة بين فنانتين كبيرتين فِي مِصْر هما: زوزو حمدي الحكيم (1912م - 18 مايو/ أيّار 2003م) وزوزو ماضي (1914م - 9 أبريل/ نيسان 1982م)، حيث ادعت كلاً منهما أن الأطلال قيلت فيها. وقد تعرفت أنا على السيدة زوزو الحكيم عَن طريق عائلة أحد الأصدقاء الصحفيين (عبْدالشّافي القشاشي صاحب مجلة: "الفنّ"، ومُصْطفى القشاشي صاحب مجلة: "الصباح")، وأطلعتني الفنّانة زوزو على مجموعة مِن أبيات الأطلال كتبها لها الدّكتور إبراهيم ناجى على أوراق روشتات الدواء فِي سنة 1934م، وقد يكون شاعرنا الكبير كتب أبياتاً أخرى للفنّانة زوزو ماضي والّتي لم يسعدني الحظ بمعرفتها. أمّا المُوسيقار رياض السنباطي (1906م - 1981م) فقد سمعت له مقابلة يقول فيها أن الأطلال مِن أعظم أعماله.. كذلك، أخبرني أحمَد رامي أنه حينما دُعى لحضور بروفات الأطلال، وبعدما وصلت الست لمقطع (أعطني حريتي أطلق يديا)، أستبد بيّ الطرب ولم استطع أن أسمع شيئاً بعْد ذلك, وخرجت مِن الصالة.

- الحكاية الثَّانِيَة:

الكل يعلم إنَّ الرَّاحل الكبير أحمَد رامي قد ترجم الكثير مِن شعر الشاعر والعالم والفيلسوف الفارسي عمر الخيام، وكان أوَّل مِن ترجمه رأسا مِن اللغة الفارسيّة إِلى اللغة العربيّة وذلك بعْد دراسته للغة الفارسية الّتي درسها فِي باريس بإيفاد مِن دار الكتب المصريّة..  ولعلّ الكثيرين لا يذكرون مِن ترجمة رامي إلاّ مَا تغنت به كوكب الشّرق أم كلثوم مِن ألحان المُوسيقار رياض السنباطي وكذلك مَا تغنت به المطربة نجاة الصغيرة مِن تلحين نفس المُلحن.. ولكنّ مجموع مَا ترجمه رامي يصل إِلى حوالى (180) مائة وثمانين رباعية نشرها فِي ديوان باسم (رباعيات الخيام).. وكانت أوَّل طبعة له سنة1924م.. وقد طبع هذا الدّيوان عدة مرَّات... وفى إحدى الطبعات لم يعجب رامي شكل الغلاف وكذلك نوع الطباعة فلم يوافق عليها وكان لديه نسخة واحدة مِن تلك الطبعة أهداها ليّ بتاريخ 8 يناير/ كانون الأوَّل 1968م.. وبِالإضافةِ إِلى نسخة مِن طبعة صدرت بعْد ذلك. وقد أخبرني رامي - طيب الله ثراه - إنّه بعْد دراسته المستفيضة لشخصيّة وحيَاة عمر الخيام، وبعْد أن شرع فِي مشروع الترجمة شكّ فِي إنَّ كثير مِن الرباعيات مدسوسة على الشّاعر وليست مِن نظمه.. فكان رامي يحفظ الرباعية ويظل يرددها ويغنيها بينه وبين نفسة ويطابقها على مَا عرفه عَن سيرة الخيام فإنَّ أقتنع بتطابقها معه ترجمها وإنَّ لم يقتنع حذفها.

وَأخِيْراً، كان رامي فِي مجالسه الخاصّة يغنى بعض مِن تلك الرباعيات باللغة الفارسيّة وكان رحمه الله ذا صوت جميل وعلى علم بالمقامات الموسيقيّة، ومِن خلال مصاحبتي له لفترة قاربت عشر سنين فإنّني أحتفظ بعدد من التسجيلات لتلك الجلسات الرَّائعة.

- الحكاية الثالثة:

ربطت بين الشاعرين الكبيرين أحمَد رامي وأحمَد بك شوقي (1868م - 16 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1932م)، صداقة وعلاقة حميمة، وقد لازم رامي - أمير الشعراء فترة طويلة مِن الزّمن، وكان مِن الّذِين يلقون شعره فِي المناسبات المختلفة فقد عُرف عَن شوقي خجله وعدم إحسانه الالقاء. لم يكن أحمَد شوقي موجوداً فِي مِصْر حينما أصدر رامي أوَّل ديوان له فِي بداية العشرينات مِن القرن الماضي، وكان رامي يتوق إِلى أن يكتب شوقي مقدمته، ولكنّ عندما أصدر ديوانه الثّاني قدم له شوقي أو كتب له أبياتاً فِي الجزء الثاني من ديوانه وفقاً لما ورد فِي حديث: (ملتقى المجد الثقافي) والّذِي جاء فيه:..".. سافر أحمَد رامي إِلى باريس في بعثة علميّة العام 1922م, وكان أحمَد شوقي يزور فرنسا كلّ صيف, فيلتقي بأحمد رامي, وهكذا مَا أن عاد رامي إِلى القاهرة العام 1924م, حتَّى عرف أم كلثوم ولازمها, حين كان محَمّد عبْدالوهاب ملازماً لأمير الشعراء أحمد شوقي, وبدأت رحلته الشعريّة حين قدم له أحمَد شوقي فِي الجزء الثاني مِن ديوانه الاوَّل ببعض الأبيات..". جاءت أبيات شوقي كالتالي:   

أخيراً، كان أحمَد رامي يقدر ويجل أحمَد شوقي بشكل كبير جدَّاً وكان يقول عنه إنّه أشعر الشعراء. وأذكر أن رامي أخبرني يوماً أن كل شاعر تجده مميز فِي باب معين فِي الشعر فهذا بارز فِي الغزل وذاك فِي الوصف أو الهجاء...الخ، إلاّ شوقي فقد قال الشعر بامتياز فِي جميع وجوهه.. إنّه بحق أمير الشعراء وفارس الشّعر العربي فِي القرن العشرين.  

- الحكاية الرَّابعة:

زار الشّاعر الكبير المرحوم أحمَد رامي المملكة الِلّيبيّة بدعوة رسميّة مِن وزارة السّياحة لحضور الأسبوع السّياحي الّذِى تمّ تنظيمه فِي أوائل شهر يوليو/ تموز 1969م، وتمّ استقباله استقبالاً كبيراً يليق بمقامه وقيمته ومكانته وتمّ ترتيب إقامته فِي فندق (الودان) وبنفس الجناح الّذِى أقامت فيه سيدة الغناء العربي أم كلثوم خلال زيارتها لليبَيا قبل أربعة أشهر مِن زيارة رامي. كُنت بصحبته طيلة أيّام وجوده فِي طرابلس، وقد حضر رامي جميع الاحتفالات والمهرجانات والأمسيات الّتي نظمتها الوزارة كذلك بعض مؤسسات المجتمع المدني.

وخلال رحلته بالطائرة مِن القاهرة إِلى طرابلس، كتب قصيدة بدأها بوصف مدى اشتياقه لزيارة ليبَيا والتعرف عليها عَن قرب، ثمّ سرد بعض المحطّات الهامّة مِن تاريخ ليبَيا، وختمها بأبيات جميلة رقيقة فِي مدح المِلِك الصالح إدْريْس السّنوُسي، وقد ألقى القصيدة في الأمسيّة الشعريّة الّتي أقامتها له (جمعيّة الفكر)، وقدمه فيها الأستاذ علي مُصْطفى المصراتي، ونشرت فِي جميع الصحف الصّادرة فِي طرابلس.

أخيراً، أعطاني الأستاذ رامي نسخه مِن قصيدة: (مِن الطائرة.. تحيّة إِلى ليبَيا) بخط يده والّتي لازلت أحتفظ بها - وإِلى الآن - ضمن أوراقي الخاصّة. 

- الحكاية الخَامِسَة: 

أكرمني الله بمعرفة أحمَد رامي عَن قرب وصحبته لعدة سنوات، وقد كتبت عدة بوستات مؤخراً عَن شخصيته وقيمته الثقافيّة وعواطفه ومشاعره وسلوكه وعلاقاته الاجتماعيّة. وكان أخر مَا كتبته فِي صيف 2015م عَن ربطة العنق الّتي أهداني إياها واحتفظ بها منذ أكثر مِن (45) خمسة وأربعين عاماً، والّتي يرجع عمرها لأكثر مِن (60) ستين عاماً. كان أحمَد رامي شديد الاهتمام بمظهره وأَنِيقاً فِي مَلْبَسِهِ فكانت بدلته مِن الصوف الإنجليزي الأصلي، وبالطوه مِن الكشمير، وربطات عنقه مِن الحرير، ومناديله من التيل الايرلندي الناعم، وأحذيته من أشهر الماركات العالميّة. ونظراً لعدم توفر هذه الأشياء فِي حقبة الستينات فِي الأسواق المصريّة فقد كان يشتريها مِن الخارج أثناء أسفاره أو مِن خلال هدايا أصدقائه المقربين ومنهم الأمير عبْدالمحسن بِن عبْدالعزيز والأمير الشّاعر عبد الله الفيصل رحمهما الله. ويُذكر أن رامي تعرض لحادث سير فِي شبابه ترك آثاراً في وجهه.. كسر في الأنف وفقدان البصر فِي عينه اليمني وقد عاش كلِّ عمره يقرأ بعين واحدة دون أن يُلاحظ أحد عنه ذلك.

وَمِن جديد، ذات يوم أخبرني رامي رحمه الله، أنه كان يلبس عند كلِّ أغنيّة جديدة لأم كلثوم بدلة جديدة مع ربطة العنق الملائمة. وقد أهدني ربطة عنق مِن الحرير ومِن ماركة سولكا الشهيرة جدَّاَ وقتئذ، وهي نفس ربطة العنق الّتي كان يلبسها ليلة حفل أم كلثوم يوم أن غنّت أغنية: (جددت حبك ليه). ويُذكر أن الرئيس الرَّاحل جمال عبْدالنّاصر (1918م - 28 سبتمبر/ أيّلول 1970م) كان يلبس ماركة سولكا  ويفضلها عَن غيرها مِن ربطات العنق. وكان رامي أيْضاً يستعمل نوع مِن العطر اسمه (Caron Pour Homme)، وقد أخبرني أنه شم رائحته على شخص جالس جنبه فِي مقهى خلال دراسته فِي باريس مِن سنة 1920م إِلى 1924م، وَمِن يومها لم يستعمل غيره. وقد أعجبتني رائحة هذا العطر وبدأت استخدمه منذ سنة 1966م.. وكُنت حريصاً على شراء كمية مِن هذا العطر كلما سافرت.. ولازلت لا استعمل غير هذا العطر رغم مرور حوالى نصف قرن على أوَّل مرَّة اتعطر به وذلك وفاءاً لذكرى الحبيب رامي رحمه الله. وَأخِيْراً، هُناك الكثير ممّا يقال عَن هذه الشّخصيّة الاسطوريّة ورُبّما تسعفني الذّاكرة بمزيد مِن الحكايات والذكريّات عنه.. رحمه الله رحمة واسعة بقدر مَا أسعد الناس وأطربهم.

الحكاية السّادسة:

سافرت مِن القاهرة إِلى لبنان فِي بداية العام 1967م - أثناء عطلة نصف السنة الدراسيّة - لزيارة أحد الأصدقاء فِي بيروت، وكانت تذكرة السفر ذهاباً وإياباً، تساوي أربعة عشر (14) جنيهاً مصرياُ، وقد رتبت برنامجي على أن أعود إِلى القاهرة ليلة حفلة أم كلثوم الشهريّة ثمّ أسافر إِلى ليبَيا  فِي اليوم التالي. وبعْد عودتي مباشرة، أتصلت بالأستاذ أحمَد رامي للسلام عليه وأبلغه بأنني أحضرت له بعض المستلزمات لزواج ابنته, وقد أتفقنا على أن نلتقى أمام سينما قصر النيل، وحين التقينا سألني رامي إذا كانت عندي تذكرة أم لا؟. أجبته بأنني سوف أشترى تذكرة الحفلة ممَنْ يبيعونها بسعر أعلى أمام السينما، فقال ليّ: أنا معي تذكرة إضافيّة فخذها وأدخل وسوف سأتبعك بعْد ذلك، فأنا سوف أعطي الأشياء الّتي تخص زواج ابنتي لأبني محَمّد فِي السيارة. وبعد ذلك، دخلت أنا إِلى الصالة فإذا بالتذكرة هي تذكرة رامي، فأستغرب الجالسون وجودي فأخبرتهم إنَّ الأستاذ أحمَد رامي متوعك قليلاً وإنّه أعطاني تذكرته وأظهرت لهم التذكرة كإثبات.

فُتحت الستارة، وجلست أم كلثوم على الكرسي ثمّ بدأت تتحقق مِن وجوه الحاضرين أو مستمعيها الثابتين فِي الصّف الأوَّل خصوصاً، وحينما وصلت بنظرها عندي زاد تركيزها فوقفت على الفور وحييتها ثمّ ابتسمت. غنّت أم كلثوم لأوَّل مرَّة أغنية: (فات الميعاد) والّتي هي مِن تأليف مرسي جميل عزيز، وتلحين بليغ حمدي.. وَفِي الوصلة الثانيّة غنّت أغنيّة: (هو صحيح الهوى غلاب) والّتي هي مِن تأليف بيرم التونسي، وتلحين الشّيخ زكريا أحمَد. استبد بيّ الطرب، وأصبحت أطلب مِن الست الإعادة، وهى تستجيب، واستغرقت أغنية: (فات الميعاد) حوالى السّاعة.

وَفِي الصباح الباكر، أتصل بيّ رامي وقال ليّ: أنت عملت إيه فِي البنت البارح ؟. قلت له على الفور: أي بنت !؟, فقال: سومة (أم كلثوم) فقد أتصلت بيّ بعْد الحفلة لتسأل عَن سبب غيابي ثمّ قالت ليّ: محَمّد بيسمع حلو حيث ظنت إنّك محَمّد ابني.. وأنتما بينكما شبه.. فقلت لها: لا ده مش محَمّد ابني، ده صديق عزيز مِن ليبيا وهُو مِن المعجبين بك جدَّاً. إِلى هذا الحد كانت مجاملة رامي، رحمه الله فقد كان إنْسَاناً مثقفاً ومهذباً ومجاملاً إِلى حدٍ بعيدٍ.  

- الحكاية السّابعة:

وجدت فِي مكتبتي تسجيل لحفل منح أحمَد رامي الدكتوراه الفخريّة مِن أكاديميّة الفنون والّذِى حضره الرئيس الرَّاحل أنور السّادات (1918م - 6 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1981م) والأديب يُوسف السباعي (1917م - 18 فبراير/ شبّاط 1978م) والكاتب رشاد رشدي (1912م - 1983م)، وكان ذلك بعْد مرور عام على وفاة أم كلثوم، وتحديداً فِي مطلع فبراير عام 1976م. تغلّب رامي على أحزانه وحالة الاكتئاب الّتي أصابته عقب رحيل أم كلثوم، وقال فِي قصيدة رثاء سيدة الغناء العربي: "مَا جال فِي خاطري أنى سأرثيها.. بعْد الّذِى صغت مِن أشجى أغانيها، قد كُنت أسمعها تشدو فتطربني.. واليوم أبكى وأبكيها، وما ظننت وأحلامي تسامرني.. أني سأسهر فِي ذكرى لياليها".

حقيقة، قد استرعى انتباهي نبرة صوت رامي الحزينة وهُو يلقى قصيدته فِي رثاء أم كلثوم، والشيء الثاني هُو كلمة الرئيس أنور السّادات المُثقف صاحب الحس الفنيّ الرفيع والرجل المقدر للأدب والفنّ، والّذِي بدأ كلمته قائلاً:".. أجدني فِي حيرة شديدة بعْد أن استمعت إِلى رامي.. هل يستطيع أحد أن يطاوله فيما عبّر عنه ؟.. هل يستطيع أحد أن يباريه فِي حلاوة اللفظ وجزالة المعني وروعة النظم؟.. ماذا اقول؟.. كُنت قد أعددت كلمتي ولكنني بعْد أن استمعت إِلى رامي.. حقيقة.. شعرت بإنّه نجم حفلنا الليلة.. لقد ظلّ لخمسين عاماً يشجى وجداننا ويلهب أحلامنا وها هُو اليوم وفِى مثل هذا الحفل يشجينا فِي الرثاء أروع ممّا أشجانا فِي الغناء..".

على كلَّ حال، أن مثل هذا الكلام مِن رئيس الدولة فِي حق أحد مواطنيه مِن الأدباء وقد تجاوز الثمانين مِن العمر وهُو كسير الخاطر بعْد فقده لأم كلثوم رفيقة دربه وحبيبة روحه.. لاشكّ أنه تقدير كبير جعل الدّموع تفيض مِن عيناه، وجعل الحضور يقدرون قائلها.  

أحبّ أحمَد رامي شعر عبْدالفتاح مُصْطفى وقد كان بينهما ود متبادل. المرحوم عبْدالفتاح مُصْطفى شاعر رقيق، عُرف عنه شعره الصوفي كقصيدة: (تائب تجرى دموعي ندماً) والّتي غنتها أم كلثوم، وكانت مِن ألحان المُوسيقار رياض السنباطي. وعرف عنه أيْضاً أعماله العاطفيّة ومِن أشهرها أغنيّة أم كلثوم: (لسه  فاكر)، وأغنيّة: (ليلي ونهاري). وله أغنيّة مشهورة أخرى اسمها: (أقولك أيه عَن الشوق يا حبيبي)، ويظّن البعض إنّها أغنيّة عاطفية بينما عبْدالفتاح مُصْطفى رحمه الله يقول إنّها أغنية دينيّة صوفيّة بامتياز، والحبيب المقصود هُنا هُو الله سبحانه وتعالى.

لقد سمعت مِن رامي أن لعبْدالفتاح صور جميله فِي شعره وكان دائماً يبدى إعجابه بالصورة الّتي أوردها فِي أغنية ليلي ونهاري عندما يقول: (لو كنت أرضى بالهوان فين قلبي.. وأزاي تطوله وتحكمه فِي ضلوعي). رحم الله كل ذلك الجيل العظيم.. ودامت مِصْر أماً للعروبة وولادة لكلَّ مُبدع.

• طرائف وقفشات خفيفة

الشخص الّذِي يمتاز بخفة الظلّ وسرعة البديهة وحسن التصرف فِي المواقف، فِي الغالب مَا يكون الأكثر قرباً إِلى قلوب النَّاس. والشخصيّة المصريّة أقرب مَا تكون إِلى العفوية والبساطة، وإِلى كسر الروتين الممل والخروج مِن التكشيرة إِلى الضحكة ومِن النكد إِلى الفرفشة.. ومعروفة بالمجاملة والكلام الحلو كذلك  بكراهيتها للنكد وحبها للمرح وللنكتة والتعليق السّريع الباعث على الضحك أو مَا يسمونه بـ(القفشة). وقد عُرف عَن أحمَد رامي خفة ظله وسرعة بديهته، وقد اشتهرت أم كلثوم بخفة الدّمّ الموروثة مِن ماء النيل وبقفشاتها الجميلة. رصد سُليْمان منينة فِي الخواطر الّتي كتبها، بعض القفشات الّتي نورد منها مَا يلي:

• السلالم وأم كلثوم!  

كان أحمَد رامي بحكم علاقته الحميمة مع أم كلثوم يناديها: (يا روحي).. وذات يوم كان هُو والشّاعر صَالح جودت نازلين مِن سلالم مبنى الإذاعة القديم فِي شارع الشريفين.. وإذا بأم كلثوم صاعدة.. فوقف رامي احتراماً لها.. فسأله صَالح: وقفت ليه يا رامي.. فردت أم كلثوم على الفور: ينزل ازا ى وروحه طالعة!.

• مكاوي وزحمة الطريق:  

كان المُوسيقار سيد مكاوي خفيف الدّمّ وسريع النكتة، وقد أخبرني أنه تأخر يوماً عَن موعد البروفة مع أم كلثوم الّتي كانت دقيقة جدَّاً فِي مواعيدها، وعندما دخل وجدها تفور غضباً، وعلى الفور قالت له: إيه المسخرة دي يا سيد.. رد عليها: معلش يا ست أصل الطريق كانت زحمة جدَّاً وأنا اللي كًنت سايق!!!، فأنفجر الجميع بالضحك لأنه كمَا هُو معروف إنَّ مكاوي كان كفيفاً.

• التليفون وخدعة الصّوت

سألني أحمَد رامي عَن محل إقامتي فأخبرته بأني أقيم فِي منزل لسيدة إيطالية ومعي عدد مِن الطلبة، فقال ليّ خيراً مَا فعلت وهذا أفضل بكثير مِن الشقق المفروشة. أعطيته رقم التليفون، واتصل بيّ ذات يوم فردت عليه صاحبة البيت، وكان صوتها فِي التليفون جميلاً وعذباً ولا يوحى بشكلها أو سنها، وكانت هي معجبة جدَّاً بأغاني رامي لأم كلثوم وقد عبّرت له عَن ذلك أثناء المكالمة.

يبدو أن رامي دخله نوعاً مِن الشكّ، فسألني مجدَّداً عَن حقيقة وضعي السكنى، وكان رحمه الله حريص عليّ كأحد أبنائه، ثمّ قال ليّ: ".. أنا لا أريد أن تكون ساكن مع صديقة أو عشيقة تلهيك عَن مهمتك الأولى وهي الدراسة..". شرحت له بدوري الوضع ثمّ أقسمت له بأن صاحبة البيت عجوز في سن جدتي، وحتَّى شعرها يكاد لا يبقى منه إلاّ القليل كمَا إنّها ترسم حواجبها بالقلم وغالباً يكون واحد فوق والآخر تحت. وعلى نحو مَا، شعرت أن رامي لم يصدقني، وبعد عدة أيّام - وأثناء مراجعتي لمحاضراتي في غرفتي - سمعت جرس الباب، ثم سمعت تهليل وترحيب كبيرين مِن العجوز الإيطاليّة بالقادم لزيارتنا، فخرجت مِن غرفتي على الفور واذا به الأستاذ رامي. قال رامي لها: ".. والله يا مدام أنا حبيتك مِن صوتك.. فقالت له: ولمّا شفتني يا رامي بيه؟. فردّ عليها - وبنغمه حزينة وبألم - قائلاً: حبيتك أكثر..". وبعدئذ، تأكد رامي - طيب الله ثراه - وأطمئن على مكان سكني.. وظلّ دائماً يذكر هذه الحادثة وكيف أن التليفون خدعه فِي صوت تلك العجوز.

رحم الله أحمَد رامي فقد كان إنْسَاناً نادراً فِي كلِّ شيء حتَّى فِي مجاملته.. رحمه الله بقدر حبي له وبقدر رعايته ليّ كأحد أولاده.. ورحم الله السيدة توماجيان لما رأيته منها مِن رعايّة وعلى إقامتي الطيبة لديها خلال تلك السنين.
 

صُّوَرَةُ خاصّة مِن أرشيف سُليْمان منينة تجمعه بالشّاعر الرَّاحل
أحمَد رامي فِي حفلة أمّ كلثوم، الخميس 5 يناير/ كانون الثّاني 1967م

 

صُّوَرَةُ خاصّة تجمع سيدة الغناء العربي أم كلثوم مع بعض النساء الليبيات فِي حفل
استقبال في طرابلس على شرف الراحلة أم كلثوم خلال زيارتها لليبَيا العام 1969م

 

صُّوَرَةُ مِن أرشيف سُليْمان منينة تجمع سيدة الغناء العربي أم كلثوم مع الشّاعر الكبير أحمَد رامي، ويظهر
بينهما الملحن والموسيقار الكبير محّمّد القصبجي فِي أحدى حفلات أمّ كلثوم أواخر ستينات القرن المنصرم

 


مصَادِر وَمَرَاجِع:

1) الأستاذ فايز فرج - مقالة: (أحمَد رامي وأم كلثوم) - موقع: (وطني) بتاريخ ٢٩ أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2015م.

2) الشّاعر فاروق جويدة - مقالة: (رامي.. أعظم "جواهرجى" فِي تاريخ الأغنيّة) - موقع: (فيتو) بتاريخ الثلاثاء الموافق 4 يونيه/ حزيران 2013م.    

3) شبكة النت الدّوليّة - موضوع: (أحمَد رامي وأم كلثوم وأغنيّة جددت حبك ليه بعْد الفؤاد مَا أرتاح) - الموضوع منشور فِي النت بتاريخ 10 يناير/ كانون الأوَّل 2012م.

4) الأستاذ هليل البيجُّو- الأديب الِلّيبيّ سُليْمان منينة يسرد رحلته مع (سيرة الطرب) الّتي جمعته بالشّاعر أحمَد رامي - صحيفة: (القدس العربي) العدد الصّادر بتاريخ 20 مارس/ آذار 2014م.

5) الموسوعة الحرَّة (ويكيبيديا) - أحمَد رامي، موقع  (ويكيبيديا) فِي شبكة النت الدّوليّة.

6) موقع: (موهوبون) - أحمد رامي .. شاعر الشباب - شبكة النت الدّوليّة.

7) الأستاذ حسين علي محَمّد حسنين (عضو إتحاد كتاب مِصْر) - مقالة: (أحمَد رامي.. شاعر الشّباب) - موقع: (رابطة أدباء الشام) بتاريخ 29 مايو/ أيّار 2010م.  

8) الأستاذ سُليْمان منينة - كتابات عَن: (أحمَد رامي) - صفحة سُليْمان منينة الخاصّة فِي الفيسبوك الموجودة تحت اسم (Suleiman Mneina).

 

إضغط هنا للتعليق على الموضوع
Reader's Comments
Abdulhamid Elbarasi
Thank you for a wonderful,educational presentation on such an important subject. Specifically with regards to the Arts, much maligned in recent history...
التكملة
فائز منصور الغماري
مقالة ممتعة، جميلة، خفيفة الظل.. قصص وحكايات وإضافات لم يذكرها أحد قبل الاستاذ سليمان منينة.. أنا من محبي الشاعر الكبير أحمد رامي، وقد زاد حبي له بعد هذه المقالة الرائعة..…...
التكملة
Ali
سبحان الله ،، مأساة و كارثة الشعب الليبي في تزايد ،، و انت تكتب عن الغناء. ،،، احترم مشاعر و شعور المقهورين في ليبيا...
التكملة
خالد محمد العكاري
بارك الله فيك على هذا المقال الرائع والذي يسرد فترة من اجمل واخصب فترات الأدب والفن العربي .. واعتقد ان السبب انها حقبة  خصبة لان عالمنا العربي  كان تحت التأثير…...
التكملة
عدنان صالح الفلاح
مقالة رائعة، وذكريات جميلة، وإضافة ولا أروع.شكراً للسيد سليمان وللأستاذ شكري، ورحم الله الشاعر المبدع أحمد رامي الذى مازال يشجينا بكلمات أغانيه منذ قرن من الزمان تقريباً....
التكملة
صالح الورفلي
شكرا ياشكري علي تفضلك بنقلنا للعالم بديع شيه نسيناه مليء بالامل والحب والبهجة والحنان ابعدته عنا بنادق الكلشنكوف ودسائس الجهلاء والانانين والذين قطعا لم تهذب نفوسهم ولم يستمعوا لقطعة ملائكية…...
التكملة